هناك أمور عديدة، لم يتوصل الإنسان لمعرفة كنهها، ولا أسرار عملها لأن الإنسان الذي خلقه الله بيده، وأوجد فيه أسراراً وعجائب، هو نفسه سرّ من الأسرار حيث أودع الله فيه أموراً غريبة وعجيبة.. ومنها الإصابة بالعين.
حيث نأخذ هذا مثلا من الأمثال التي كل يوم يُكتشف شيء عجيب، يدل على عظمة الله وقدرته سبحانه وما ذلك إلا أن في النفس البشرية، مخازن علمية، وأسراراً دفينة تؤصل العقل البشري، بما آتاه الله من دراية وما هيأ الله فيه من إمكانات، وبما وهب الله الخالق من عقل يتفكر به، كما يروى عن الفيلسوف (فودكير) بقوله: أنا أفكر إذاً أنا موجود.
فجعل التفكير هو سر وجوده، لكن التفكير في الإسلام، أداة يحسن استخدامها للتبصر في مخلوقات الله، والمهمة التي خُلق لها وهي عبادة الله، وعمارة الكون بذكره سبحانه: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} (الفرقان الآية 77).
فقد كان للفكر دور كبير في اكتشاف أسرار كثيرة من الكائنات هي من الله هبة لمنافع الناس لعلهم يشكرون، والمسلم مأمور بالتفكر في كل شيء حوله، كما جاء في الأثر: تفكّر ساعة خير من عبادة سنة.
فالنفس البشرية بها مستودع العلوم مع الأسرار الدفينة، حيث توصل العقل البشري - الذي هو عطاء من الله لبني آدم- إلى التمعن في مخلوقات الله، والمهمة التي خُلق لها حيث إن فِكر الإنسان يتطور ليبين أمامه أشياء كل يوم جديدة، كما يقال: عرفت شيئاً وغابت عنك أشياء، إذاً بالتفكر تتسع المدارك لأن الإنسان خلقه الله وفيه مواهب، واكتشافها يبين بالعمل والتجارب، وإتاحة الفرص، وجاءت الدعوة للتفكر والتعقل في القرآن الكريم قرابة (100) مرة.
وبرهان ذلك أن تشعبات الطب وأقسام التخصصات، والكم الهائل من الأجهزة الطبية والمختبرات تتجدد وتتجدد معها المعلومات عن النفس البشرية، ويبرز ذلك لأصحاب كل من المتعمقين فيه متابعة والمحاولين سبر أغوار النفس، وتلمس الخفايا التي تطرأ مع البحث والمتابعة في خصائص كل نفس: متابعة وتأملا.
وإلى عهد قريب كان الطبيب يعالج كل شيء يشكو منه المريض، ليصف الدواء - وقد يكون موحداً- لكل مرض يُعرض عليه وما هي إلا فينة من الزمن تشعبت خلالها التخصصات وتنوعت المعارف التي انفتح بابها أمام العقل البشري، في دراسة خفايا الجسم، وتم اكتشاف جوانب مهمة فيه وبلغ الأمر إلى الجزء الصغير من أجزاء هذا الجسم فتنوعت الاختصاصات فيه، التفكر ومواطن الذكاء.
ثم بدأ الدارسون يتعمقون في تفتيت جزئيات هذا الجسم: كالعين مثلا: فقد أصبح لها كليات علمية ومختبرات متعددة ومستشفيات متخصصة، كلها توالي الدراسة، وتتابع الجديد.. فكثرت الدراسات وتشعبت الاختصاصات وتعاظم عدد الباحثين وتسابقوا في الميدان.
فكان في كل عام يخرج جديد، فصار لهذا الجزء الصغير في الجسم وأهميته، مع تكرر نعمة الله على الإنسان في مصدري التشريع، فبرزت المجلات العلمية لتواكب المتابعة، وتهتم بالعرض عن كل ما يجد عن العين وحدقتها، وأعصابها والقرنية وإفرازات العين، وعدسات التجميل، وعن أي مؤثر في العين وجفونها وطرق العناية وأساليب ذلك والمساعدة في تقوية النظر، بالنظارات والعدسات بأنواعها وزراعة القرنية.
كل ذلك له مجالاته المتعددة والدراسات الفنية المتخصصة مما أصبح معه أن لكل فرع مجالا للدراسة والبحث مستقلا يدقق في بحر خفاياه الواسعة أمام طلاب المعرفة وله امتيازاته وفروعه، بل ومكتبة تحوي خلاصة ما تم بحثه في هذا المجال، لأن خفايا وأسرار العين التي استحقت مستشفيات خاصة ومراكز أبحاث للمتابعة في كل جديد.. أما القديم الجديد في العيون، فهو سحرها الذي تغنى به الشعراء والنظرة العامة للمرأة التي تهتم بجمالها، ورونقها من أبرز ما يهتم به الشعراء والأدباء والعشاق، لذا كانت المرأة تهتم بزينة العيون وبكل سبب يلفت النظر إليها، وهذا بحر خاض فيه الشعراء.. نموذج ذلك قول أحدهم:
إنّ العيون التي في طرفها حَوَرٌ
قتلْننا ثم لم يحينَ قتلانا
يَصْرَعْنَ ذا اللّب حتى لا حراك له
وهُنّ أضعف خلق الله إنسانا
وهذا الباب شيق وواسع، ويحتاج لوقفات متأنية حيث تبرز لواحظ العيون كوامن النفوس وتأجج الغرام، وفي باب الطب والمرض والرقى، جاء حديث عن ابن عباس قال: قال رسول الله: (العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين) وفي رواية: (أوردت الجمال القدور، والرجال القبور.
إذ مهما تحدثنا عن العيون وأسرارها وعلاجها يبقى سر لم يتوصل إليه العلم الحديث بعلاجه المحسوس وهو الإصابة بالعين، وتأثيرها الخفي في المصاب فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث أسماء بنت عميس قالت: يا رسول الله، إنّ بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم، قال: (نعم.. فلو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين) قال الترمذي حسن صحيح.
وإذا كان كثير من الماديين ينكرون هذا التأثير، وسره فإن الغرب اليوم بدأوا يدرسون هذا السر، تكوينه، وتأثيره، وكيف يأتي وكيف يعالج، وفسروه بأنه نوع من الإشعاعات الدقيقة، تخرج عن النفس الراغبة بواسطة النظر بالعين، وتحركه انفعالات باطنية بالرغبة الملحة، فيحصل التأثير بالعين.. وهذا التعليل غير مقنع عندهم، لأن هذه النتيجة لم تكن مستندة على حقيقة علمية ملموسة: بالعقل أو بالإقناع المادي المعهود عندهم.
فبقي لهذا اللغز جذور مستمرّ فهمها من معهودهم، إلا أن السحر والشعوذة والخرافات من جذور الأمم الوثنية، التي تستمد العلوم من الجذور القديمة، فأوقعت بعضهم في حيرة من هذه الظاهرة: ما بين تلك الجذور في معهودهم الظاهري، وبين إنكار العين مع أثرها في المعين، وما يحصل في بيئاتهم من أمور محسوسة وصاروا يتلمسون التعليلات البعيدة عن الموضوع.
وحالة أخرى وقعت تحت هذا التأثير الذي لم يتم التعرف على طريقة الوقاية منه، فأغرقوا في الخيال، وساروا في متاهات لأن النفس إذا لم يعصها الإيمان، لتستند على الأدلة المقنعة، من الشرع وترضى بمصادرها التي جاءت عن الله وعن رسوله، فإنها سيغمرها البحر بلججه وتضيع في متاهات الخيال، لترجع إلى السحرة والمشعوذين والخرافات.
وقد لاحظت في عدة دول أوروبية وفي أمريكا نفسها وفي استراليا ما يعلق على السيارات وأبواب المنازل وعلى الأطفال مع سبقهم في العلم المادي، هذه الأشياء المعلقة تتكون من الخرز الأخضر، وأحذية صغيرة جداً، وحذاء الفرس، وغيرها وبالسؤال يقولون: هذه تطرد العين والحسد والشرور الشيطانية.
ويسهّل هذا عندهم: الغجر الذين يسمون في البلاد الإسلامية بمسميات متعددة: الكاوليّة في العراق، والنّور في بلاد الشام، والصّلب في الجزيرة العربية، وغيرها. لكن العلاج الحقيقي في صيدلية الإسلام، وفق الامتثال لأمر الله جل وعلا والتقيد بما وجه إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
وهذا يجب أن يأخذ به الفرد المسلم كأمر مسلّم به، في أمور كثيرة هي من المسلم عقيدة راسخة، نجد ذلك من أسرار النفس التي تحتاج إلى تبصر وحسن امتثال، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (بأن العين حق) لذا يجب أن نعتقد ذلك، ثم أمرنا رسول الله بألا نقتل إخواننا بما تتوق إليه النفوس، وأن على من وجد في نفسه شيئا تاقت إليه، أن نبرّك، لأن التبريك وذكر الله يطفئ هيجان الحسد، ويريح النفس لتهدأ ثائرتها وذلك بالقول عندما يرى الإنسان شيئا يعجبه، وتاقت إليه عينه، بالقول: ما شاء الله تبارك الله، فيجب الأخذ بذلك لأنه حصن قبل وقوع الأثر من العين.. وهذا علاج وقائي للحماية، مثلما يعمل في الطب الحديث: اللقاحات عن بعض الأمراض.
والطب النبوي أخذ في الآونة الأخيرة حيزاً مهماً من القبول والاهتمام من علماء الإسلام وغيرهم الذين درسوا خفايا النفس في بلاد الغرب، فربطوا الطب النبوي به كبديل ثابت في أمور عديدة.
وموضوع العين وأثرها من منظور الإسلام، في الطب عموما وأثر ذلك: يقول ابن القيم رحمه الله في كتاب الطب النبوي، معللا ما تتركه العين من تأثير في الآخرين: إن العائن إذا تكيفت نفسه، بالكيفية الرديئة، انبعث من عينه قوة سميّة تتصل بالمعين، فيتضرر قالوا: ولا يستنكر هذا كما لا يستنكر انبعاث قوة سمّية من الأفعى تتصل بالإنسان، فيهلك وهذا أمر قد اشتهر عن نوع من الأفاعي، إذا وقع بصرها على الإنسان هلك، فكذلك العائن، ولكن الذي يقضي على أثرها: ذكر الله، والتبريك.
وأورد في هذا حقائق وأقوالا كثيرة وعلل بالأرواح وتغير لون الوجه حُمرة أو صفرة أو اسوداداً، ولضيق المجال فنحيل القارئ الكريم، إلى كتابه، الطب النبوي وخاصة من ص162 إلى ص174.
وما دمنا قد أوردنا العلاج الوقائي قبل حصول أثر العين، بذكر الله والتبريك، فإن من المناسب ختم الحديث بالعلاج النبوي بعد الإصابة بالعين، وبفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال كما جاء في الموطأ لمالك بن أنس رضي الله عنه قال: (اغتسل أبي سهل بن حُنيف بالخرار فنزع جبّة كانت عليه، وعامر بن ربيعة، ينظر إليه وكان سهل شديد البياض، حسن الجلد، فقال عامر: ما رأيت كاليوم ولاجلد مخبأة وعذراء؟ فوُعِك سهل مكانه، واشتد وعكه، والله ما يرفع رأسه).
فأخبر رسول الله بوعكه، فقيل له ما يرفع رأسه، وكان قد اكتتب في جيش للغزو، فقالوا له: هو غير رائح يا رسول الله، فقال: هل تتهمون أحداً له؟ قالوا: عامر بن ربيعة، فدعاه رسول الله فتغيظ عليه، وقال: علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا برّكْتَ» اغتسل له، فغسل عامر بن ربيعة وجههُ ويديه، ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزراره في قدح، ثم صُب على سهل من ورائه، فبرأ سهل من ساعته، وراح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس.. (جامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير الجزري 7-585).
وعرفنا من ذلك العلاج من العائن، بشيء لامس جلده أو عرقه يغسل ويصب على المعين فيبرأ بإذن الله.