دخلت معسكر التدريب العسكري وأنا مدجج بأنواع الاسلحة والدروع، عُزلت عن العالم الخارجي، غيبت بين الكتل الكونكريتية والاسلاك الشائكة والخنادق الرملية... لا أسمع إلا لغة الاوامر العسكرية الصارمة.
لم أكن أرغب بالدخول الى ذلك الميدان الجاف والخالي من أنغام موسيقى نصير شمة وأشعار الجواهري وأقداح عديدة من القهوة البرازيلية والعديد من الاحاسيس التي أشعر ان وجودي صار مرتبطا بها، غير ان مشقة الحياة اجبرتني على مغادرة ذلك العالم الجميل.
لم أتخيل يوماً ان يكون لي اصدقاء داخل هذا الميدان الحربي، إلا تلك العصفورة الصغيرة التي أراها صباح كل يوم... كنت اناولها ما تيسر من الخبز لتسد رمق جوعها ولتقبل ودَّ صداقتي في هذه الاجواء المريبة.
مرت الايام.. وبدأت أشعر بمحبة عميقة بدأت تنمو بيني وبينها، حتى بات اسم الصبح يعبر عنها.. كنت اشعر أنها تراكم تلك الاحاسيس الجميلة التي أفتقر إليها الآن.
بدأت العصفورة تألفني أكثر فأكثر وباتت تأكل من يدي غير آبهة بمخاطر الاسلحة التي أحملها.. تأكل من فمي وتحلق في السماء وتعلن عن إطلالة صباح جديد فيه بصيص امل قد يخفف الرهبة التي بداخلي..
اشعل فتيل المعركة.. من دون سابق إنذار..
ظرف طارئ حولني من معسكر التدريب الى الخطوط الاولى في ساحة الحرب أو ما يعرف بخطوط الموت.
رصاص في كل مكان.. دخان وأشلاء واصوات مدفعية تدك القلب.. جثث هنا وهناك.. رائحة دم استشرت في المكان وسرعان ما تحول لون الارض الى اللون الاحمر.
لم أكن آبهاً للاخطار من حولي.. وإنما تركز قلقي على تلك العصفورة الصغيرة التي أبحث عن اي خيط يوصلني إليها في هذه الفوضى ابحث عن ريشة تعود إليها..
يأخذني التفكير إلى عالم آخر ابتعد بمخيلتي أكثر وأتناسى جوّ الدمار من حولي.. تنبهت لصوتها بين أصوات الرصاص.. وفوجئت بأن عصفورتي تمارس دور السلام في المعركة وتنقل السنابل الى الجرحى وتعطر جثث الشهداء بباقات من الياسمين.