الكتابة في عناية المسلمين بهذا المصحف لا يمكن حصرها في هذه المقالة المجتزأة؛ فتاريخ المصحف وكتابته في جميع العصور الإسلامية، وما لحق هذه الكتابة من عناية بالغة وفائقة في طريقة الخط، وطريقة التنسيق، وطريقة التذهيب والتجليد، واختيار المداد مما يطول ذكره، وقد بدأت كتابة القرآن الكريم في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم-؛ إلا أنه لم يُجمع في مصحفٍ واحد، بل كان مفرَّقاً في عددٍ من أدوات الكتابة، ثمَّ كُتِبَ في عهد أبي بكر وعثمان بن عفان رضيَ الله عنهما، وفي عهد عثمان استقرَّ رسم المصحف على ما اتَّفقَ عليه الكَتَبَةُ الذين عيَّنهم عثمان- رضي الله عنه-، وصار بمثابة الإجماع على هذا الرسم، وسمِّيَت الكتابة باسمه «الرسم العثماني»، فالمصحف مرَّ بمراحل بعد استقرار هذا الرسم حتى وصلنا بهذا الشكل الذي نراه.
وما قام به علماء الصحابة من رسمهم المصحف، ثمَّ ما أضافه علماء الأمة بعدهم من أمورٍ متعددة، خصوصاً ضبط المرسوم وقراءته، وهو ما سُمِّي (علم الضبط)، وتجزئته ووقوفه؛ مما يدخل في عناية الأمة بهذا المصحف، ومن معاني قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، وهذا الجانب مغفولٌ عنه تَماماً في الدراسات القرآنية، وكتب علوم القرآن، مع تعلقه بالقرآن الكريم.
ويقول د. غانم قدوري: «دراسة رسم المصحف لا تهم المتخصصين بالدراسات القرآنية وحدهم، بل تفيد دارس اللغة العربية، وأهل التاريخ والآثار، والمهتم بالخط العربي وتجويده، ولعلي لا أجاوز الحقيقة إن قلت إن دراسة الموضوع سوف تكون نتائجها مفيدة وممتعة للذين يحملون في قلوبهم حب القرآن ويحرصون على تلاوته وتفهم معانيه،لأن نتائج هذه الدراسة سوف تكشف لهم عن التواصل بينهم وبين أصول هذا الكتاب الكريم، فالمصاحف المخطوطة تشكل سلسلة متصلة الحلقات بدايتها المصاحف العثمانية، و نمسك اليوم بطرفها الممتد عبر السنين من خلال هذه المصاحف، المعززة بالرواية الشفهية للقراءة القرآنية».
والمتتبع لهذا الجانب من جوانب العناية بالقرآن وكتابته وخطه، وتاريخ خطاطيه يستخفه العجب من هذا التاريخ العريق لهذه الصناعة الشريفة، وهو جانب من جوانب حفظ الله لكتابه.
وقد حفظت لنا كتب التاريخ أسماء كثير من المتخصصين في كتابة المصاحف، وممن تفرغ لهذا الشأن في حياته، وقد برز منهم خلال التاريخ الإسلامي العديد ممن أجادوا خطوط المصاحف كخالد بن الهياج، ومالك بن دينار، والضحاك بن عجلان، والرشيد البصري، وابن مقلة، وابن البواب، وشمس الدين محمد بن أبي رقية، وياقوت المستعصمي، وشهاب الدين غازي، وشمس الدين محمد الوسيمي، وابن العفيف، وابن الصائغ الذي يعتبر عميد الخطاطين العرب في مصر المملوكية في القرن التاسع الهجري، وكثير من أسماء هؤلاء الخطاطين تجدها في أوائل أو أوآخر مصاحفهم التي كتبوها.
وامتداداً لتلك السياقات التاريخية التي تبرز عناية الأمة بكتابة القرآن الكريم، وأن القرآن الكريم متواترٌ في الصدور، ومكتوبٌ في السطور؛ هاهو مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، وبرعايةٍ كريمةٍ من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - يحفظه الله - ينظم «ملتقى مجمع الملك فهد لأشهر خطاطي المصحف الشريف في العالم»، وإضافة لدعوة أشهر خطاطي المصحف الشريف في العالم ؛ فقد دُعيَ لحضور هذا الملتقى مجموعة من العلماء والمثقفين والمفكرين، ولا يفوتني في هذه المقالة أن أشكر مجمع الملك فهد ممثَّلاً بأمينه العام الأستاذ الدكتور محمد سالم بن شديد العوفي، ورئيس اللجنة التحضيرية للملتقى، سدَّدَ الله الخطى وبارك في الجهود.
*محاضر في جامعة القصيم