يُعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إحدى ركائز الدين الحنيف، لكن جمود أدائه عند الأساليب القديمة جعله محصوراً في ملاحقة النساء والشباب والعمال في شوارع المدينة. ومن خلال نظرة مبسَّطة لهذا المبدأ العظيم سندرك أن المقصود منه هو محاربة الفساد والحث على الأعمال الحميدة والنزاهة حسب مفاهيم العصر، ولا يمكن على الإطلاق أن يقبل مجتمع أن «يُلاحَق» في حياته العامة من قِبل محتسبين لا نشكك في صدق نواياهم، لكن النوايا الطيبة لا يمكن وحدها أن تكون مصدراً وميزاناً للأفعال الصحيحة، ولا يمكن أن نظل أسرى دائمين للاجتهاد الخاطئ؛ فالاختلاف هو في طريقة وأساليب المطاردة، وما يتبعها من تشويه للوجه الحضاري في المجتمع؛ فهل يُعقل أن تتحول حياتنا العامة إلى أشبه بالمطاردة الدائمة؟ وهل يُدرك هؤلاء حجم الضرر والتشويه للوجه الحضاري للإسلام؟.
لفت نظري خبر في جريدة الحياة ليوم الأربعاء الموافق 27 إبريل 2011، وفيه أن موظفَيْن تابعَيْن لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طلبا من امرأتَيْن استأجرتا محلاً في مهرجان الجنادرية التوقف عن بيع مرطبات للزوَّار وإخلاء المحل بداعي الاختلاط، لكن قائد معسكر الجنادرية العميد عبدالرحمن الزامل رفض الانصياع لطلب «الهيئة»، وقرر استمرار المرأتين في نشاطهما، وفي ذلك دليل على أن الآمر لا يزال منذ عشرات السنين موضع الاجتهاد الشخصي. يدخل هذا الخلاف بين الهيئة والأمن في دائرة عدم وضوح الحقوق الفردية، وأين على وجه التحديد تقع حدودها، وهل للرجل حرية وحقوق تختلف عن حرية وحقوق المرأة؟ وهل للمرأة الغنية وسيدة الأعمال حقوق مكتسبة أكثر من حقوق المرأة العاملة؟! تلك قضايا إن صحَّت قد تدخل في باب التفرقة العنصرية، وأعتقد أننا ما زلنا عاجزين عن تناولها بشفافية، والمسألة في نهاية الأمر كرامة؛ إذ لا يمكن لإنسان أن تهان كرامته أمام الناس لسبب أنه امرأة لا تتمتع بأي حقوق واضحة في العمل في السوق أو حتى الخروج من بيتها، فالمسألة لا تزال في طور الصراع بين الذكور الذين يطالبون باحترام كرامة المرأة، وأولئك الذين يرون فيها متاعاً في بيت زوجها، وهكذا. والرجل في بيئتنا الثقافية يتمتع بحق الخروج وارتكاب الخطأ، بينما يوجد حصار حديدي حول المرأة إذا خالفت بعض التعاليم الصارمة في اللباس على سبيل المثال. قضية الحقوق الفردية أو الإنسانية لا تزال قضية شائكة في حياتنا العامة، ولا يزال الاجتهاد الديني قاصراً في إيجاد مخرج لها في ظل غياب منظومة للحقوق والواجبات، برغم وجود هيئات وطنية للحقوق الإنسانية تطالب بمزيد من الوعي بالحقوق، الذي يناقض ترك الأمر لأبواب لا حصر لها من الاجتهاد الشخصي؛ فأغلب المحتسبين لا يقر بمرجعية الحقوق الإنسانية، وقد يؤدي ذلك إلى تصادم بين الهيئات الرسمية حين أداء واجبها، وعادة لا يقبل المحتسب أن تتم مسألته من قِبل الهيئات الحقوقية أو وضع مرجعية قانونية يرجع إليها عند مطاردته للناس. ثقافة المطاردة والمجاهرة بالعقاب في آن واحد لا يمكن أن تنتج مجتمعاً سوياً، وقد تجاوزنا ذلك في المدارس، ولم يعد هناك ضرب أو عقاب بدني أو حتى توبيخ لتلميذ أمام زملائه لما في ذلك من ضرر نفسي بالغ على الطالب، وينطبق ذلك على المجتمع؛ فالملاحقة وتوبيخ الناس في الشوارع ودفعهم بصورة غير متحضرة تؤدي إلى نفور الناس؛ لذك نحتاج إلى تدوين الحقوق الفردية في المجتمع قبل أن يتحول إلى ساحة قضاء عامة تتم في شوارعها مقاضاة المسؤولين والناس على قراراتهم وتصرفاتهم وسلوكهم من قِبل أقلية عالية الصوت. الإنسان لا يمكن أن يكون منصفاً وعدلاً في أفعاله ما لم يمتلك حقوقاً واضحة وبيّنة، ومبادئ الحقوق لا يمكن أن تكون فعّالة إلا إذا كان الناس لديهم إحساس بالعدالة واحترام المؤسسات العامة لحقوقهم الفردية، وعادة لا تفرق مبادئ الحقوق الإنسانية بين ذكر أو أنثى، كذلك الدين الحنيف لم يُفرّق في الخطاب الإلهي بين الناس؛ فكان خطاباً عاماً يجعل من الخطأ حقاً إنسانياً في الحياة الدنيا. وضع الله - عز وجل - له ميزاناً عادلاً {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}، و»خير الخطائين التوابون».. ويخرج من ذلك الحقوق العامة التي فيها تعدٍّ، ويتفق الشرع والقوانين العامة على معاقبة الناس على تعديهم على حقوق الآخرين.. وإذا كان الآمر كذلك لماذا إذن تستمر المطاردة في الأسواق والشوارع؟ ولماذا لا نتعلم كيف نعيش بهدوء وسكينة مثل بقية شعوب الأرض المتحضرة؟.