الكرامة هي قيمة الإنسان الحقيقية وهي عنوانه، وهي تأشيرة دخوله للحياة، فمتى فقد الإنسان كرامته انتهت حياته وسقطت قيمته ومنزلته، وانداس أسفل الأقدام.
الكرامة هي مفاتيح العطاء والبذل بسخاء، وهي الهيبة والاحترام للذات قبل أي شيء آخر، فبالكرامة يكون بناء الشخصية وتعزيز كل الجوانب الإيجابية فيها، والعكس بالعكس.
الكرامة حياة ومعانٍ وقيم حقيقية، وليست كلمات رنّانة وشعارات برّاقة وسلوكيات عابرة، الكرامة هي عضو داخل عضو ينمو داخل النفس، فبنموِّه تكون الحياة، وبمجرّد موته أو القدح فيه تنتهي الحياة، إذ لا قيمة للحياة بدونها، فالكرامة هي مشروع حياتي متكامل تبدأ من الإنسان إلى محيطه الصغير، ثم إلى البيئة التي ينشأ فيها، ثم إلى مجتمعه إلى أن تكون الوطن بأسره، فكرامة الوطن من كرامة المواطن، وكرامة البيئة التي يعيش فيها الفرد من كرامته، فمتى تم التطاول على كرامته أو على كرامة بيئته التي ينتمي إليها، أياً كانت تلك البيئة، فإنه بذلك يكون قد تم التطاول عليه بذاته وشخصه.
لذا فإنّ قوة التماسك بين كرامة الفرد وكرامة البيئة والمجتمع والوطن وترابطها، حلقة متصلة ومترابطة لا ينفك أحدها عن الأخرى، فالكرامة هي العصمة والحماية والعزّة والسيادة، والاستحقاق والجدارة، متصلة بذات الإنسان وعقيدته.
وكرامة الرئيس السابق لمصر (محمد حسني مبارك) من كرامة الشعب المصري، وكرامة مصر بأسرها، حتى وإنْ ثارت عليه مصر وشعبها، حتى وإنّ تنحّى عن السلطة أو خلع منها، فهذا لا يفسد للمبدأ أمراً.
وقد آثر الرئيس البقاء على تراب مصر بعد أن تخلّى عن منصبه وكامل مسؤولياته الرسمية، ولم يغادرها ليقضي ما تبقى من حياته على ترابها، وهذا دليل على حبه لمصر وافتخاره بها ووفائه لها - وحقّ له ذلك، فمصر تستحق الكثير -.
وهذا التصرف أظنه تصرف حكيم يحسب له، إذ إنه لم يفعل كما فعل معتوه ليبيا الذي أدخل البلاد في منزلق خطير لتزهق فيه الأنفس وتراق فيه الدماء، وأظن أنّ هذا الموقف فقط يستوجب على المصريين أن يحسبوه له وأن يشفع له عندهم في عدم إهانة الرئيس ورمز مصر على مدى ثلاثة عقود مضت.
ولا يخفى على أحد منا أنه متى حدث احتلال دولة لدولة أخرى أو حدث انقلاب أو نحو ذلك، أن تبادر تلك الجديدة للعمل على تشويه سمعة رموز الدولة السابقين ومحاكمتهم وتشويه سمعتهم وإهانتهم، وهذا هو ديدن من يصلون إلى سدّة الحكم بتلك الطريقة على مر العصور والتاريخ.
وهذا الذي نشاهده اليوم من مسلسل متوارث، وإنْ كانت الصورة مختلفة نوعاً ما، إلاّ أنّ المشهد يكاد يكون هو هو، من العمل على تشويه الصورة وإنكار كل جميل فيها وتضخيم كل سيئ في أي جانب من جنباتها، وإلصاق التهم بجانب الحقائق لتمييع الحقيقة بين الحق والباطل، وتحترق الصورة وتهان، ويتسنّى لكل متسلِّق أن يتلاعب بها كيفما شاء.
ولا يختلف اثنان أنّ الرئيس المصري السابق له جوانب مشرقة وأخرى سوداء خلال فترة حكمه، الأمر الذي أخرج الشارع المصري طالباً رحيله من سدّة الحكم، حتى كان لهم ما خرجوا من أجله.
ولكن !!!
هل نخرج للشارع بالأمس من أجل رفع الإهانة وطلب الكرامة، وفي اليوم التالي نخرج للمطالبة بإهانة الرئيس وأحد رموز مصر؟؟ - (وإنْ كان رمزاً مخطئاً، إلاّ أنه يظل رمزاً من رموز مصر يشغل عدداً من صفحات التاريخ المصري والعالمي لا يمكن تجاهله) -.
هذا من المتناقضات، فحري بالشعب المصري أن لا يكون معاملا بالمثل، وأن يترفّع عن كل مَوَاطن الزلل ومَوَاطن النقص والقصور، وأن يعتلي قمم الكرامة والعزة والشموخ، وأن لا يخنغ لغير الهامات ويترفّع عن الأقدام التي ينادي بها الأقزام من شرذمة القوم، ويجعلونا نغفل عن كوننا شعباً ذا كرامة وذا عزة وأصحاب نخوة عربية ومواقف مشرفة تسجل بصفحات التاريخ بالذهب لا بماء الذهب، وهذا هو ما يميّز شعب مصر عن غيرهم من الشعوب الأبية.
فحري بالعقلاء والمدركين لتلك المخاطر من النخبة التي تحتضنها مصر من العلماء والسياسيين والمفكرين والأدباء والمثقفين وأهل الحل والعقد، أن يعوا ويدركوا خطورة الاتجاه الخاطئ الذي يعيشه الشارع المصري اليوم، وأن يهبّوا بثورة قاطعة لتلك الدوامة الخطرة وتشتيت محاورها المتخبّطة، وتأطيرها في قنوات عقلانية متزنة تحفظ على مصر أمنها واستقرارها، وتعيد لها هيبتها وقوّتها الدولية، وتمكن شعبها من العيش في رخاء وسعادة.
فكأني بكثير من المصريين اليوم يتمنّون عودة حسن مبارك لسدّة الحكم وعودة الأوضاع لما كانت عليه (على قساوتها) بدلاً من هذه الحالة التي يعيشها الشارع المصري اليوم من تخبُّط هنا وهناك.
إنّ الوضع الراهن منذر بخطر أكبر مما كانت عليه مصر في السابق إنْ لم تتنبّه وتعي وتتدارك الأمر قبل فوات الأوان.
إنّ التسامح والتنازل عن الحقوق ليس عيباً ولا قهراً ولا ذلّة؛ بل هو عزة وكرامة وكبرياء لا يستطيع أن يفعلها إلاّ أناس عظماء، وشعب مصر عظيم قِدَم التاريخ، وتاريخه حافل بكل المواقف البطولية التي تدل على كرامته وعزّته وعظمته وأخلاقياته، فحري بأبناء مصر أن لا يشوّهوا تاريخهم العظيم بخطأ صغير يدنس صفحات ماضيهم المشرف، وتكون تلك السقطة عاراً عليهم أمام أجيال مصر القادمة والعالم بأسره.
إنّ الشعوب والأمم تفخر برموزها وملوكها ورؤسائها، وتجتهد في تمجيدهم وتعظيمهم، والتغاضي عن زلاّتهم وأخطائهم وإنْ عظمت، وتقدم المصالح العليا على المصالح الدنيا والشخصية، فكونوا لها يا أبناء مصر ويا شعب الكنانة ولا تخذلوا تاريخكم المجيد وتسامحوا عن رئيسكم رئيس مصر على مدى ثلاثة عقود مضت، الرئيس الذي حقن الدماء برحيله من كرسي الرئاسة، وآثر بقاءه بينكم لحبه لبلاده وترابها، فلا تخذلوه بتقديمه للمحاكمة وإهانته بعد سنين عز، فكونوا عظماء بأنفسكم وأفعالكم، واجمعوا على التغاضي عما بدر منه، وعفا الله عما سلف، وأتمّوا بعملكم هذا ما قمتم به خلال ثورتكم لتحظوا باحترام أنفسكم أولاً ثم احترام الشعوب الأخرى، وإبقاء صفحات تاريخ مصر العظيم نقية وناصعة بالبياض المعتق بالبطولات الجسام، بعيداً عن أي نقط سوداء تلطخه أمام الأجيال وصفحات الأيام من تاريخ العظماء.
فالشعب العظيم لا يرث تلك الصفة فحسب؛ بل يرثها ويكتسبها أيضاً بما يؤيد تلك العظمة من التغاضي عن الأخطاء والزلات، وقيمة عالية من المشاعر الصافية الصادقة، والنوايا النبيلة الحميدة، كل ذلك في حق هذا الرجل الذي كان يوماً من الأيام رمزاً لمصر العظيم، فحري بكم أن تكون أصحاب السّبق لكل خير جميل يحسب لكم، والعفو عند المقدرة من شيم الكرماء.
الشعب العظيم هو الذي ينظر إلى الأمور من عدة زوايا، ولا ينظر إليها من زاوية واحدة أو من الزاوية السلبية فحسب، بل إنه ينظر إليها من زوايا عدّة ويركّز على الزوايا الإيجابية دون السلبية، فالعظمة لا تكون من زاوية الأناة بل من زوايا عدّة.
الشعب العظيم ليس من يفجّر ثورة الإطاحة بالرئيس؛ بل هو من يفجّر الثورة بداخله بما يجب أن يتعامل به مع رموز بلاده وقادتها دون النظر إلى زلاّتهم وهفواتهم؛ لأنه بذلك سوف ينتصر لمصر لا لشخصه فحسب.
الشعب العظيم هو من يرسم الصورة ويكملها ويبرزها ويختار لها المكان المناسب الذي يجب أن تكون فيه، فالشعب المصري بدأ رسم الصورة بالثورة، ويجب عليه أن يكملها بإطارها اللائق ليضعها في المكان المناسب، وإطارها هو كرامة الرئيس وعدم إهانته، ومكانها هو تاريخ مصر المشرف أمام شعوب العالم؛ ولنتذكر أنّ الصورة تلك لم تكن لترتسم معالمها لو أنّ الرئيس بقي في منصبه وسلّط بندقية جيشه نحوها كما هو الحال في ليبيا الآن.
الشعب العظيم هو من يستمع لنفسه وذاته، ويستقي مفردات حياته من أمته ومن علمائها وساستها ومفكريها وأدبائها وعقلائها، لا من يستقي ذلك من الإعلام المشوّه الذي يبحث عن السّبق الإعلامي بغض النظر عن مصالح الشعوب، ناهيك عن المصداقية والمهنية والموضوعية والحيادية في إعلام اليوم وللأسف الشديد، فلتكن إرادة الشعب المصري العظيم هي راعية تلك الثورة لا الإعلام المشوّه الذي يخدم أجندات معادية للشعوب الأبية الوفية.
وفي الختام أقول إنّ الشعب العظيم في مصر قام بثورته ليحرّر الأفواه المكمّمة وليستمع للرأي الآخر وليحترمه دون أن يسخر منه أو يستخف بالعقليات المعارضة والمخالفة له دون قهر أو إهانة.
sss1389@gmail.com