منذ زمن والكتابة عن هذه القامة تلح علي من حين لآخر، وتمر الأيام والليالي تأخذ برقاب بعضها، وربما يتم ذلك وهو من قبيل الصدفة البحتة أن لايكون ارتباطي بالكتابة لجريدة بعينها، الأمر الذي يرجئ التفكير وبالتالي الكتابة، كنت أستمع إليه والغناء الحضرمي الصافي النقي يدخل القلب عنوة، وصور الكلمات الشعبية التي تأخذ من طبيعة الجبال والسواحل رمزا لا يغيب، وإشارة تحكي قصص الحب والوطن والغربة التي أصبحت سمة ووصفا لأهل حضرموت، لكن المفارقة أن أهل حضرموت بالذات لاتطمس الغربة والبعد المكاني وطول الزمن هذه العلاقة الوشيجة وفي ظني أن هذا الغناء الذي لاينقطع وهذا الرقص الذي لايتوقف أشبه مايكون بتجديد لذاكرة الأرض ووجوه الأحبة ولايترك للغربة بصمتها، كانت هذه القامة تحمل عبء هذا الموروث الهائل والمتعدد والذي تزخر به المدن والقرى المنثورة فوق الجبال والوديان والسواحل، وبطبيعة الحال فإن لكل منطقة طعمها الخاص ونكهتها الدالة عليها دون غيرها، حمل في قلبه هذه الأثقال يعبر بها ومعها هذه الجبال والنجود والسهول، بعذاب عذب يستطعمه لأسباب كثيرة فهي تعني له العشق الأول، وجوه الأهل والأحباب، رائحة الأرض ذلك الذي لاتفقده الذاكرة مهما تغيرت الأحوال وتبدلت الأمكنة.
من محاسن الصدف أن تكون هذه القامة تضفي على المكان حضورا طاغيا يخاتله الشعر والحكايات وقصص الزمن الجميل ومن حظي أن أكون ضمن مجموعة من الأصدقاء في منزله العامر وبطبيعة الجلسة التي تنوعت اهتمامات المجموعة بين أساتذة الجامعة ومن له علاقة بالأدب والفن والتي أخذت المنحى الجمالي للأحاديث، منذ تلك الليلة أصبحت صديقا خاصا وأثيرا لديه وأسيرا لفنه الذي لايتكرر وربما عجز الكثير لمحاولة أدائه والوصول إلى هذا الشأو الذي يتعب الآخر، وليت هذا القرب من - أبو بكر سالم بلفقيه ساعدني على اكتشاف عوالمه وسبر أسراره ومعرفة معالم الدهشة التي تضج بها ألحانه ويتجلى بها صوته إنشادا وغناء قل نظيره بل إن واقع الحال لم يترك لي سوى الدهشة والفرح الذي لايخيب، لست ناقدا فنيا على كل الأحوال ولكنها شهادة للأيام أن عشت في زمن تلك القامة.