مات ابن لادن ورمي جسده في البحر، هكذا يقولون في وسائل الإعلام المختلفة المرئية منها والمسموعة العالمية والمحلية، لايهم هذا كثيراً -في نظري- إذ إنني أؤمن إيماناً جازماً أن الأفكار لا تموت بموت صاحبها المدافع عنها، خاصة إذا خلف وراءه تلاميذ ومريدين وأنصارا ومحبين، بل على العكس من ذلك قد يكون رحيل صاحب الفكرة ومشيدها ورمزها الأساس في زمن ما سببا لتجدد ميلادها ومن ثم شيوعها وبداية تلبسها ودخولها مرحلة جديدة من عمرها تختلف في الشكل والمكان وتتفق في المعطى والمضمون، ولذا لا أتفق مع من قال أو كتب بأن موت «بن لادن» نهاية لموجة العنف والتطرف والغلو والتنطع التي أطر فكر القاعدة وصفد وللأسف الشديد عقول بعض أبناء المسلمين هنا وهناك، كما أنني أختلف مع بعض الزملاء الكتّاب الذين ظنوا أن ملف الإرهاب سيغلق إلى الأبد ولن يفتح من جديد من قبل القوى الكبرى فضلاً عن الحكومات والمؤسسات الأمنية المختلفة فهو عنوان لمرحلة تاريخية انتهت وبدأ من بعدها عصر الصراع بين الحاكم والمحكوم في بلاد العرب شرقها وغربها شمالها وجنوبها، إذ إن هذا الكلام يتناقض مع حقائق التاريخ وشواهد الواقع ويتعارض مع مسلمات العقل السليم ونصوص الشرع الصحيحة والصريحة.
نعم للرموز أهميتهم ومكانتهم في انتشار الفكرة وقوتها وكسب الأنصار حولها ولكن متى ما كانت الفكرة ذات صبغة دينية عالمية ويمكن تمريرها على صغار العقول الذين يغريهم البريق ويخدعهم السراب وتدغدغ مشاعرهم الأماني والأمنيات فسوف يولدُ الرمز من جديد خاصة إذ أخذنا في الحسبان أن المعطيات الواقعية والدوافع السياسية والملابسات الفكرية التي كانت سبباً لوجود القاعدة بزعامة أسامة بن لادن ما زالت جاثمة على صدور الأنصار مسربلتهم من أخصم أقدامهم حتى مفارق رؤوسهم.
إن أشد شيء في نظري هو بناء القناعات في عقول النشء الصغار، وأشد منه انتزاعها بعد اكتشاف خلالها من قبل من يصنفون أنهم أعداء -طبعا لدى هؤلاء الأتباع- ومن ثم بناء صورة ذهنية إيجابية سليمة سواء عن المجتمع أو الوطن أو حتى الدين والأمة وذلك لعدم تمكن من هم في سن الشباب من التفريق بين الواقع والمثالي وعدم القدرة على الربط بين السبب والمسبب وعجزهم عن مقارنة النصوص وتطبيق القواعد الأصولية عليها والتعامل الأمثل مع المطلق والمقيد والخاص والعام والمحكم من الآيات والمتشابه والناسخ والمنسوخ والمتقدم والمتأخر خلاف الكبار الذين عرفوا النص وأيقنوا بالعقل وعلمتهم تجارب الحياة الفرق بين هذا وذاك، وإن كانوا لا يعلمون لأي سبب كان فهم من يبادر بسؤال أهل الذكر والاختصاص، ولم تصفدهم الانتماءات الحزبية المقيتة التي جنت على أمتنا وأوطاننا وسلبت من شباب الإسلام عقولهم في زمن التفتح والنضج والاكتساب المعرفي والعلمي الديني منه والدنيوي.
إنني لست خبيراً في المستقبليات ولا يمكن لي أن أجزم على شيء سواء ما يخص القاعدة أو غيرها ولكنني أعتقد أن من واجبنا الاستمرار في التحذير من التنطع والتشدد الفكري والعملي كما أن من واجبنا التنبه لما قد يحاك في المرحلة القادمة سواء تحت مسمى القاعدة أو غيرها وباسم الدين أو من أجل الأمة أو حتى الوطن. وفي المقابل قد يكون الخطر القادم على أمننا الفكري قادما من الغرب سواء بصورة منتج علمي فكري بحت أو عن طريق الأنظمة والقوانين و المؤسسات والمنتجات والتقنيات عابرة القارات التي لا تعترف بحدود زمانية أو مكانية.
إن المرحلة التاريخية التي نمر بها من أصعب المراحل وأشدها فكرياً وربما لم يبق في عالمنا الإسلامي من يراهن ويحافظ ويدافع عن قيمنا ومسلماتنا وخصوصيتنا بالشكل الأمثل سوى المملكة العربية السعودية ولذا فهي جزماً محط الأنظار ومحل الاهتمام العالمي، وليس هناك من جديد هنا حين أشيد بجهود قيادتنا الحكيمة في التعامل من جميع منعطفات وتعرجات وملابسات المرحلة الصعبة التي نعايشها ويكتوي بنارها أهلنا هنا وهناك، ولكن الجديد أن هذه الجهود وهذا الصمود يحتاج إلى تكاتف الجهود وبذل الكل ما يستطيع من أجل ضمان مستقبل أفضل وعلى منهج الإسلام الوسط فلا إفراط ولا تفريط .
إنني هنا أهيب بكل مرب وإعلامي وأب أن يتذكر أنه راع ومسئول عن رعيته والدائرة تتسع كلما كبر المرء، والمسئولية تعظم كلما علا شأن الإنسان، والأمن بكل دلالاته وعناوينه ومفرداته وسبله ومجالاته ومنعطفاته أمر عزيز وليس له ثمن في موازين العقلاء ومنظار الخبراء، ولذا فلنكن جميعاً حراس أمن ورجال دولة وحماة دين وعناوين وفاء ومفاتيح خير ومغاليق شر وإلى لقاء والسلام.