الثروات لا الأديان هي الشرط اللازم لقيام الحضارات في المجتمعات الإنسانية. وكونها شرطاً يعني أنه لا يلزم من وجود الثروة وجود الحضارة، فقد تكون هناك ثروات ولا يكون هناك حضارات. ولكنك لا تجد حضارات دون وجود الثروات. وأما الأديان فهي وصف طردي محض، وجودها وعدمه لا أثر له في الحضارات. وشاهد ذلك أن الحضارات قبل الإسلام وبعده لم يكن الدين سبباً فيها بل عائقاً لها. ولو سبرنا الحضارة الإسلامية فسنجد أن الحضارة الفكرية العلمية لم تظهر إلا بعد أن استقرت الدولة الإسلامية وعظم ثراءها وخاصة في دمشق وبغداد والأندلس. وباستثناء علماء الحديث ومن يدور في فلكهم، فإن الحضارة الإسلامية الفكرية والعلمية لم تقم إلا على أيدي علماء فلاسفة غالبهم من الملاحدة والزنادقة أو من يدور في فلكهم. فالفارابي وابن سينا وابن المقفع وجابر بن حيان والخوارزمي (عالم الجبر والرياضيات) وعباس بن فرناس وثابت بن قرة وثابت بن سنان والطبيب الرازي واليعقوبي وابن الهيثم والكندي والإدريسي، وغيرهم كثير، إن هم سلموا من الزندقة والإلحاد لم يسلموا من الاعتقادات الخبيثة والضالة.
فقد كان الفارابي يفضل الفيلسوف على النبي، ويكذّب الأنبياء، وله أقوال في إنكار البعث. وأما ابن سينا فهو كما قال بن الصلاح «كان شيطانا من شياطين الإنس». ووصفه بن القيم بإمام الملحدين. فقد جعل الوحي فيض العقل، وجعل النبي فيلسوفا، وغير ذلك كثير. وأما ابن المقفع فقال المهدي: (ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع). وأما جابر ابن حيان فقال عنه بن خلدون: اشتغل بالكيمياء والسحر والطلسمات. وذكر بن جرير عن الخوارزمي أنه كان من كبار المنجمين وأن الجاحظ - كان من أئمة المعتزلة وكان لا يصلي، ورمي بالزندقة. وذكروا عن الكندي أنه كان منجّم ضال، متهم في دينه كإخوانه الفلاسفة، بلغ من ضلاله أنه حاول معارضة القرآن بكلامه. وفي عباس بن فرناس قالوا إنه منجم، نسب إليه السحر والكيمياء، وكثر عليه الطعن في دينه، واتهم في عقيدته. وثابت بن قرة قيل عنه أنه كان صابئا ملحدا منجما، وهو وابنه إبراهيم بن ثابت وحفيده ثابت بن سنان. قال عنهم الذهبي: (ولهم عقب صابئة، فابن قرة هو أصل الصابئة المتجددة بالعراق). ولم يكن الطبيب الرازي إلا ملحدا من كبار الزنادقة الملاحدة، ذكر من كفرياته شيخ الإسلام ابن تيمية الشيء الكثير. وعن المسعودي قال: (وفي تاريخ المسعودي من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله تعالى، فكيف يوثق في كتاب قد عرف بكثرة الكذب؟). ونقلوا عن الأدريسي أنه كان خادماً لملك النصارى في صقلية بعد أن أخرجوا المسلمين منها. ومن كفريات ابن رشد الحفيد أنه كان يقول بأن الأنبياء يُخيلون للناس خلاف الواقع.
قد تأخذ العاطفة والحمية قلوب المسلمين فيستنكرون هذه المقولة ويتجاهلونها ويهاجمون من ينقلها عن شيوخ الإسلام وعلمائهم، وهم في ذلك لا يريدون أن يبحثوا حقيقة أسباب تخلفهم الحضاري ورضوا بالقعود والتغني بأمجاد قوم لا ينتسب غالبهم إلى الإسلام، بل إلى الحضارة الإسلامية. نعم {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (134) سورة البقرة، ولكننا إن لم نصدق الله ونصدق أنفسنا في تحليل أسباب تخلف المسلمين، فلن نصل إلى الحل أبداً. وأعتقد أن زندقة علماء الحضارة الإسلامية جاءت بسبب أنهم أقحموا الدين في علوم دنيوية مسكوت عنها شرعاً فألحدوا وتزندقوا، ومما سكت عنه في هذا، أنهم ما كانوا ليفعلوا هذا لولا أن فكرة أسلمة كل شيء كانت قوية آنذاك فأتى علماء الحضارة الإسلامية بالعجائب وبنواقض الدين كما أتى أشباههم اليوم ببعض شيء من ذلك في زمننا المعاصر.
hamzaalsalem@gmail.com