لها منزل تحت الثرى وعهدتها
لها منزل بين الجوانح والقلب!
وما من شك أن فقد الغالي من أسرة الإنسان من آباء وإخوة أو أقارب وجيران له بالغ الأثر في النفوس يظل أُوارى الحزن يعتلج داخل أضلاع المرء المفجوع بغاليه زمنا يطول مداه، فيتجدد كلما تذكره وجال بخاطره بعضا من محاسنه ومواقفه المشرفة، وما جرى بينهما من تآلف وأحاديث ودية جميلة ممتعة في ساحة البيئة التي عاشوها، فبينما كنت مضطجعا منتظرا وافد النوم ليلة السبت 26-5-1432هـ إذا بالرنين من هاتف الأخ الشيخ أبو سليمان عبدالعزيز بن سليمان الباتلي مخبرا برحيل عقيلته شريكة حياته ورفيقة دربه هيا بنت ابراهيم العمراني أم إبراهيم بنت أخي بالرضاعة إبراهيم بن محمد العمراني -رحمهما الله- قائلا لقد انطفأت مصابيح منزلنا وأظلمت أرجاؤه وسادت الوحشة أجواءه:
ووحشته حتى كأن لم يكن به
أنيس ولم تحسن لعين مناظره!!
فكان لذاك النبأ وقع كبير من الأسى في نفسي لما كانت تتحلى به من أخلاق عالية، ولصلتي بها حيث كنت عما لها من الرضاعة وقد خيم الحزن على أجواء أسرتها وأبنائها وبعلها وجميع محبيها -تغمدها المولى بواسع رحمته- ولقد عانت ابنة أخي من الأمراض المتعددة ما الله عالم بها، متنقلة بين مصح وآخر من مستشفيات مدينة الرياض طلبا للشفاء والعافية، وخوفا من (شعوب) الموكل برحيل جميع الخلائق، وبعد انتهاء مدة إقامتها على متن الأرض أنزل أبناؤها جثمانها الطاهر في باطنها، ونظراتهم في تلك اللحظة الموجعة لقلوبهم تتابع وضع اللبنات على حافة اللحد حتى اختفت عن عيونهم اختفاء نهائيا، وقد رطبت دموعهم جوانب قبرها..، و لك أن تتصور حالهم ولوعات الفراق وهي تغلي بين جوانحهم - كان الله في عونهم - ولقد وصفت -يرحمها الله- بحسن الخلق ورحابة الصدر مع القريب والبعيد، وحبها للخير والبذل في أوجه البر والإحسان للأيتام والأرامل والمساكين، ويقال إن بيتها بمنزلة المستودع الخيري لشهرتها لدى جيرانها في العطف على المحتاجين، فهي تستقبل ما يصل إليها منهم ومن غيرهم من أموال وأرزاق وأثاث وملابس، فتقوم بتلمس أحوال بعض الضعفة والمحتاجين فتمدهم بما يتيسر من ذلك، فشهرتها وتفانيها في حب العمل الخيري جعلها محل الاحترام والتقدير في محيطها الأسري والاجتماعي..، فجزاها الله وجزى جميع المحسنين خيرا.
ولقد نشأت يتيمة حيث باكرها اليتم، وقد حرمت من رؤية والدها وحنانه في صغرها، فلذا منَّ الله عليها بالحس الإنساني وشعورها بآلام الأيتام والمساكين، فحبب إليها العمل الخيري حتى قبيل وفاتها، كما لاتنسى نفسها من تلاوة القرآن الكريم بصفة دائمة، فقد انضمت إلى دار التلاوة للأمهات بعد صلاة العصر كل يوم عددا من السنين فسهل عليها حفظ أجزاء من القرآن الكريم وتلاوته، ومما زاد تأثري وحزني مشاهدتي لشقيقها الوحيد الأستاذ محمد بن إبراهيم العمراني جالساً على مقعد قرب قبرها بمقبرة أم الحمام بالرياض، ولم يتمالك الوقوف والمشاركة في دفنها لشدة حزنه على رحيلها، وعيناه تذرفان دموعاً حرى، فحاولت التهدئة من روعه وحزنه والرضا بقدر الله مكررا قول الشاعر:
فلا تبكين في إثر شيء ندامة
إذا نزعته من يديك النوازع
غفر الله لها وأسكنها عالي الجنان، وألهم ذويها ومحبيها الصبر والسلوان.
(*) حريملاء