الموت موعظة وذكرى، وهو آتٍ على كل حي، إذ كل من عليها فان كما قال الله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ، فلا بد أن يتجرع كل حي منا غصص الموت وكرباته وسكراته، فهل من معدٍ للعدة، وهل من متزود من دار الفناء لدار الخلود والبقاء؟
ولكنه لا يفجع الفؤاد ويفطر النفس مثل فقد عزيز.. إنه أكثر الأحزان والآلام إيغالاً في الروح وطعم مراراته علقم، يغص به ويستشعر طعمه كل من امتد به العمر وشاهد رحيل من تعلق قلبه بهم وكانوا لحياته ودنياه وعالمه ملء السمع والبصر، ومن هنا كان رحيل الشيخ ثامر النوري بن مهيد، شيخ شمل قبيلة الفدعان من عنزة، الرجل الفاضل المتواضع صاحب الخلق الرفيع والقلب المحب للجميع، أشد وقعاً وأبلغ تأثيراً.
إذ ينتمي الفقيد إلى قبيلة عنزة العربية التي تضرب جذورها في عمق التاريخ، والتي من شدة بأسها قالت العرب: (كل قوم إلى عنزة) أما جده فهو من عُرف بالـ(مصوّت بالعشا) لشدة كرمه، كما أبان الشاعر سعدون بن فهد مادحاً الشيخ ثامر:
يا راعي العليا نزعل النفس لرضاك
ندراً زعلك ليا عرض بالأحلامي
جدك مصوت بالعشا ليا نسبناك
ومعك على دروب المراجل وسامي
والشيخ مجحم (مقحم) المهيد وابنه النوري، رحمهما الله، كان لهما ثقل اجتماعي كبير في بلاد الشام، وكانت لهما علاقات قوية مع عائلة العواصي وخاصة مع الشيخ هذال العاصي، وأستذكر هنا ما كان يقوله والدي رحمه الله في الشيخين مجحم المهيد والنوري من مآثر وخصال حميدة لا تنسب إلا للرجال الكبار من أمثالهما، ولكم حدثني عنهما وكيف كانا رمزاً للكرم والعطاء والبذل والوفاء، وعنواناً للشهامة والانتماء والإباء، وأنهما كانا مثلا في الحكمة والمعرفة ومحل احترام الكبير والصغير والغني والفقير.
ولا نبالغ إذا قلنا إن الشيخ ثامر رحمه الله من مدرسة الشيخ مجحم المهيد والنوري المهيد، التي تعلم منها وفيها الجميع مكارم الأخلاق وسمو الصفات، فقد كان رحمه الله رجلاً كريماً وأصلاً محباً لوطنه المملكة موالياً لولاته، كسب محبة الجميع رجلاً نادراً في زمانه، محباً للآخرين، غيوراً على دينه، لا يعرف الكذب والنفاق، بعيداً عن الغيبة والنميمة، ليس للهوى مكان في قلبه. لم يترك باباً من أبواب الخير إلا وطرقه، ولا سبيلاً من سبل المعروف إلا وسلكه، وكان موضع استفادة لكل صاحب حق، كان مثالاً وقدوة في الأخلاق العالية الرفيعة والصفات الحميدة، لأنه كان في مقام من يصلح للاقتداء به، ولذلك ندعو الله العلي القدير السير على نهج الشيخ واقتفاء أثره في روحه الصافية وتسامحه مع الآخرين وكرمه وشهامته وحبه للخير، فضلا عن تواضعه، غفر الله له، الذي كان من أهم الأشياء عنده، لأهله وأقاربه وأصدقائه، ولكل من جالسه من الصغير والكبير والغني والفقير بكل أريحية، وكان الجميع يشعرون أن لهم عنده منزلة ومكانة، بشوشاً في وجه من يلقاه، لا تكاد الفرحة تسعه بقدوم الضيف، لدرجة تشعر فيها أن الضيف صاحب البيت والشيخ الضيف، ولذلك قال فيه الشاعر فهد الطبل:
يا شيخ (ثامر) يا عزيز الملاقات
شيخ الشيخ اللي له القوم
شيخ على الفدعان ما به امراوات
يشهد لك التاريخ عرضه وطوله
رحم الله الشيخ، فله في القلوب حب ووفاء وتقدير، وكان رحيله أمراً فادحاً وخطباً عظيماً وحدثاً جللا، رحيل جبل أشم، وقلبٍ أتم، وصاحب أدبٍ جم فحق للعين أن تدمع، وللقلب أن يحزن، وللدموع أن تسيل من المآقي، سيظل الشيخ حياً بيننا بسيرته الطاهرة العطرة، فرحمه الله رحمة واسعة، ونور عليه قبره، ونعمه في برزخه ويوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم، وحقق أمله بدخول الجنة، كما نسأله عز وجل أن يبارك في أبنائه من بعده، الذين هم خير خلفٍ لخير سلفٍ إن شاء الله تعالى.
ناصر أحمد الجربا - الرياض