منذ فجر الإنسانية وأي مجتمع إنساني يقوم على أساس (عقد اجتماعي) بين الحاكم والمحكومين. هذا العقد عادة ما يقوى ويتجذر عندما يكون الحاكم، أو من يمثلون الحاكم من موظفيه وأجهزته التنفيذية والقضائية، يتخذون قراراتهم بما تمليه عليهم الرغبة المجردة في (العدل) بمعناه الواسع بين أفراد المجتمع، والعكس صحيح، أي أن الحاكم كلما ابتعد عن تلمس العدل، وحافَ في قراراته، وجعل من أهوائه ومصالحه ومصالح حاشيته الضيقة منهلاً ينهل منها في أحكامه، انعكس هذا الوضع انعكاساً سلبياً - وربما تدميرياً حسب نسبة الحيف - على العقد الاجتماعي، وشيئاً فشيئاً يتجه المجتمع إلى اللا استقرار، ومن ثم إلى الفتنة. ولم يعرف التاريخ فتنة سياسية لم يكن سببها وباعثها في الغالب خللاً في العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكومين.
ما يجري في سوريا من اضطرابات واحتجاجات ومشاكل سببها وباعثها - في تقديري - أن الخلل في العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكومين وصل حداً لا يمكن للمحكومين السكوت عليه؛ فثاروا. وعندما يلجأ الحاكم إلى القمع والسوط والسجون والقتل والسحل لفرض (الأمر الواقع) فرضاً على مَنْ يحكمهم فهو كمن يصب الزيت على النار لإطفائها، ولن يزيد القمع والقبضة الحديدية الفتن إلا اشتعالاً، هكذا علَّمنا التاريخ.
ومخطئ مَنْ يقارن ما يجري الآن في سوريا بما جرى في مدينة (حماه) إبان عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد في الثمانينيات من القرن الماضي. ثورة حماه كانت إبان الحرب الباردة بين المعسكرين قبل سقوط الاتحاد السوفييتي، إضافة إلى أنها كانت ثورة (مؤدلجين)، منطلقها منطلق (فئوي) محض، قام بها آنذاك (جماعة) الإخوان المسلمين؛ فهي لذلك لا تمثل إلا هذه الفئة؛ لذلك كان القضاء عليها ممكناً؛ لأن (العقد الاجتماعي) حينذاك كان مقبولاً، ولم تصل تراكمات الفساد السياسي والإداري والمالي إلى المستوى الذي وصلت إليه الأمور الآن. أما اليوم فإنَّ الظرف العالمي يختلف، فضلاً عن أن مَنْ ثاروا هم كل فئات المجتمع على ما يظهر، ولم تسلم من الثورة والاضطرابات والاحتجاجات مدينة أو قرية؛ الأمر الذي جعل الثورة عامة، يشارك فيها الجميع دون استثناء طائفي أو عرقي.
خطورة ما يجري الآن في سوريا أن الأزمة تكاد تصل إلى نقطة (اللاعودة)؛ فالدم إذا ما أريق، وأصبحت أعداد الضحايا تتزايد يوماً بعد يوم، يُصبح سقوط النظام حتمياً. غير أن سقوط النظام لا يعني أن مَنْ سيأتي بعده سيكون الأفضل؛ فالثورة السورية دونما رأس؛ فليس ثمة جهة (معارضة) معينة يُمكن لها أن ترث النظام بعد سقوطه، كما أن الجيش الذي كان في التجربتَيْن التونسية والمصرية له الكلمة الفصل هو في سوريا مُسيَّس حتى العظم؛ فالانتماء لحزب البعث هو شرط ضروري يجب أن يتوافر في كل مَنْ يصل إلى القيادات العليا في الجيش؛ لذلك فإن السقوط ينذر بأن البديل سيكون الفوضى والاضطرابات؛ ما يجعل من سوريا بعد سقوط النظام أقرب إلى (النموذج الصومالي) بعد أن سقطت الدولة، حيث الحروب الأهلية التي ما إن تنتهي في جزء حتى تشتعل في جزء آخر، ومثل هذه الفتن والاضطرابات لن تبقى داخل الحدود السورية، وإنما ستتأثر بها حتماً كل دول الجوار، وبخاصة تلك التي للتكوينات الإثنية السورية امتدادات في نسيجها الاجتماعي. ولعل هذه النقطة بالذات هي السبب الذي جعل دولة في حجم (تركيا) مثلاً تُبدي كل هذا القلق والاهتمام حيال ما يجري في سوريا الآن، وكذلك الأمر بالنسبة للعراق والأردن ولبنان، إضافة إلى إسرائيل وإيران أيضاً. سقوط النظام السوري سيكون مدوياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ هذا ما تقوله كل المؤشرات.
إلى اللقاء.