لا يمكن أن تمزح مع إخواننا الأفارقة في (القارة السمراء)، سواء العرب أو غيرهم، في قضايا الماء وتقسيماته، وخصوصاً إذا كنت من أصحاب البشرة البيضاء - كما يظنون هم - أي من خارج الوطن البقعة المقدسة لديهم (أفريكا نو طبعاً).. على فكره الاسم الصحيح لها يجب أن يكون (القارة الخضراء) لكثرة الأدغال والغابات فيها.
عموماً، كنتُ أول موفد إعلامي سعودي للبحث في خفايا وأسرار ما يحدث في هذه القارة، وخصوصاً مع نُذر الحرب التي تلوح في الأفق حول حصص وتقسيمات مياه النيل.
فقد قرر (رؤسائي الأفارقة) في القناة الفضائية - كما علمت فيما بعد سامحهم الله - الزج بهذا الشاب السعودي للبحث في القضية عبر المرور بـ11 دولة إفريقية؛ لأنه - كما يعتقدون - الوحيد القادر على التعاطي مع الأزمة دون انحياز.
الرحلة بدأت من (نيروبي) إلى بحيرة (فيكتوريا) أحد منابع النيل وأكبر البحيرات الاستوائية في العالم، التي تطل عليها ثلاث دول هي (كينيا وأوغندا وتنزانيا)، رافقني خلالها فريق تصوير مستأجر من محطة (CNN الأمريكية)، وسهّل كثيراً من مهمتي، وخصوصاً أن هذه المحطة تكاد تكون الوحيدة التي يعرفها السكان المحليون لكثرة تصويرها السفاري ورحلات الصيد..
حاولتُ أن أبحث في أغوار المشكلة بعيداً عن مواقف (الساسة)؛ فهم يدّعون أن دولتَيْ المصب (مصر والسودان) تحصلان على حصص أكبر من مياه النيل من (دول المنبع)، وهي الأحق بالنسبة الأكبر كما يعتقدون، وهنا يكمن فتيل الخطر..
إلا أن حديثي مع الناس البسطاء ممن يعيشون على ضفاف النيل هو الأهم بالنسبة لي والهدف، وكان قمة في (المتعة والإثارة)؛ فهم لا يتحدثون العربية، ولا الإنجليزية، وإنما (يرطنون) لغات محلية سواحلية معقَّدة جداً صعبة الفَهْم، وأنا سعودي من نجد!! يعني لا ثقافة مشتركة بيننا (انسَ الموضوع). أحياناً يُخيَّل إليّ أنهم يعتقدون أني كائن غريب!! لا يفهمونني، فقط يبتسمون في وجهي.. وهذا كافٍ لي لتسجيل ردة فعلهم نحو القضية، هكذا كان المشهد في بداية الأمر، ولك أن تتخيله.. الحل نزل عليّ من السماء؛ فقد تعرّفت على شخص يُدْعى (علي)، يقول إن أجداده هاجروا إلى هنا من عُمان، ويتحدث لغتهم بطلاقة، (ويطقطق شوي عربي وشوي إنجليزي)، لكنه للأمانة سهَّل شغلي كثيراً، وكان حلقة وصل بيني وبينهم، إلا أني استغربتُ ثقافة أهل الأدغال؛ فهم يطلبون 10 دولارات مقابل كل تصريح يدلون به لي عن أزمة المياه، وطوال عملي مراسلاً وموفداً إخبارياً على مدى 11 عاماً أول مرة أواجه هذه الثقافة الراقية؛ فمن يتحدث للإعلام يقبض مقابل ذلك، كما هو معمول به في الدول الأوروبية، وليس كما يحدث في شوارعنا وملاعبنا، تجد 20 شخصاً (رازين خششهم) خلف المذيع أو الضيف مجاناً ودون مقابل. عموماً، الرحلة استمرت لدول أخرى لأكتشف لاحقاً ومن أحد المصورين بالمصادفة أن (الأخ علي) هو مَنْ كان يقبض الدولارات العشر وليس الضيوف؛ فهم كانوا يقولون «نموت مقابل الحصول على قطرة ماء للشرب»، وعلي يترجم «يطلبون عشرة دولارات قبل الحديث معك سيدي»!
سامح الله (علي)، وأصلح الله بين الفرقاء على ضفاف النيل..
وعلى دروب الخير نلتقي.
fahd.jleid@mbc.net