المتابع للخطاب الإيراني يلاحظ أسلوباً غريباً في التعامل مع الأحداث والواقع، وكأنه ينظر إليهما من خلال أنبوب ضيق لا يمكنه من رؤية المساحة الكافية التي تعطي المواقف الإيرانية الثقل اللازم والآلية القادرة على إيصال الرؤية المطلوب إيصالها.
فساسة إيران كثيراً ما يتكلمون عن شريحة يدعون أنها مظلومة ومهضومة الحقوق من أبناء الشعوب الأخرى. فإن كانوا أكثرية، فسؤالهم هو: لماذا لا تكون الكلمة الأعلى لهم؟ وإن كانوا أقلية فهم المهضومة حقوقهم، فلماذا لا يلجؤون إلى العنف؟ وإن كانوا أقلية يحكمون أغلبية، فلماذا لا يدعون؟ أليسوا شوكة في حلق إسرائيل؟
أما إن كانوا بعثيين عراقيين، فهم (الإيرانيون) يشتركون مع الأمريكيين والأكراد بضرورة اجتثاثهم. وإن كانوا بعثيين سوريين فالوطنية توجب دعمهم وعدم الوقوف في طريقهم.
وعندما تثور الشعوب في مصر وتونس وليبيا واليمن، فإن هذا هو المنتظر. لكن عندما يحدث الأمر ذاته في سوريا فإن ذلك لا يعدو كونه فتنة يجب وأدها بصرامة.
خطاب مرتبك حقاً، وهو بالتأكيد موجه للعرب. العرب الذين يملكون من عناصر الوحدة أكثر مما تملكه الشعوب الإيرانية. فالقومية واللغة والثقافة هي عوامل مشتركة بالنسبة للعرب، أما في الحالة الإيرانية فإن الخلطة تقترب من عشر قوميات بعشر لغات مختلفة بعقائد ومذاهب متعددة.
نعم، هناك أقليات هاشمية (في عددها) ضمن المجتمع العربي، وهي هامشية مقارنة بالكتلة العربية وبعضها ذابت في البوتقة العربية، كما أن هناك أقلية من أقلية عربية وقعت في الشرك الفارسي، لكنها سوف تدرك في النهاية أنها لا تعني شيئاً بالنسبة لإيران لسبب واحد هو: أن أبناءها ينتمون للعنصر العربي الأصيل.
وإذا ما عدنا إلى موضوع تنصيب إيران نفسها كمدافع عن الأقليات والمهضومة حقوقهم، فإنه يحق لنا أن نتساءل السؤال الكبير التالي:
ماذا عن إيران نفسها؟
لو رسمنا خارطة ديموغرافية لإيران لخرجنا بلوحة متنافرة الألوان، تمثل قوميات مختلفة بلغات مختلفة بتطلعات مختلفة، اتسم تاريخها بالصراع المرير، وأجمعت على رفض الهيمنة الفارسية، فمن الأذريين في الشمال الذين يشكلون ربع سكان إيران (تقريباً) إلى البلوش في الجنوب الشرقي، إلى الأكراد في الشمال الغربي، إلى العرب في الجنوب. ناهيك عن أقليات أخرى أقل شأنا. لذلك، فإن مصطلح الأكثرية والأقلية لا ينطبق على إيران، فالعنصر الفارسي لا يتعدى (50%) من السكان في أفضل الحالات. بمعنى أن العنصر الفارسي يشكل أكبر الأقليات. على عكس العراق مثلاً الذي يشكل فيه العنصر العربي أكثر من (85%).
ألا تهتم إيران بمشاكلها الخاصة، والتي هي في الواقع بمثابة قنابل سبق لها الانفجار، بل إنها مستمرة بالانفجار، فقصف المناطق الكردية لم يتوقف، ومذبحة البلوش لا تزال حية في الذاكرة. أما الأذريين فلهم تاريخ طويل من الصراع مع القوى التي احتلت أرضهم؛ حيث تبادلت احتلالهم قوى مختلفة منها روسيا وتركيا وبريطانيا، وأخيراً إيران. إن ما تحتاجه هذه العناصر هو تجاوز نقطة الخوف، لكي تنتفض وتبدأ مشوار التطلع لتحقيق طموحاتها القومية.
إن السيف الذي تهزه إيران في وجه الآخرين لن يكون بالحدة التي يمكن أن يكون فيها السيف الذي يمكن للآخرين أن يهزوه بوجهها. لكن: لماذا أحجم الآخرون عن ذلك؟ لا أحد يعرف سبباً لذلك الإحجام. إنه فعلاً مدعاة للحيرة. لقد اضطر صدام حسين لتوقيع اتفاقية الجزائر عام 1975م التي تنازل بموجبها عن نصف شط العرب لإيران بسبب دعم الشاة للأكراد بالمال والسلاح والغطاء المدفعي. لماذا لم يلعب صدام نفس الورقة التي لعبها الشاه؟ لماذا لم يتبن إحدى القوميات الإيرانية التي كانت عطشى للدعم؟ لقد كان لدى الشاه خيار واحد هم الأكراد، في حين كان لدى صدام أكثر من خيار.
غباء صدام أكمل ما بدأته اتفاقية (أرضروم) المشؤومة التي وقعتها الدولة العثمانية مع إيران. لماذا لا يلعب من تأذى من التطاول الإيراني نفس اللعبة؟ فإن كانت النتائج مؤذية للأطراف الأخرى فإنها سوف تكون قاتلة بالنسبة لإيران، التي يجب أن تفهم أنها الأضعف عندما يصل الأمر إلى اللعب بعواطف الأقليات. إنني لا أجد ما أختم به هذا المقال أفضل من تكرار المكرر: إذا بيتك من زجاج فلا ترم بيوت الناس بالحجارة.