اليوم وبعد استقرار الحياة في الجزيرة والخليج, وتبلورها في دول عصرية منظمة, وبعد اندماجها في المجتمع الدولي, وأخذها بأسباب الحضارة والحياة الحديثة, لم ينحسر مد الرواية الشفهية في الشعر النبطي, على الرغم من أن غاياتها التي أوجدتها تكاد تكون انتهت. وأقصد رواية الشعر القديم لا رواية الشعر الذي يقال هذه الأيام, لأن وسائل الاتصال الحديثة المتنوعة, وأوعية المعلومات المتعددة, قامت بالمهمة, فألغت الغاية الأساسية للرواية الشفهية وهي (الحفظ), لكن الغاية الأخرى للرواية الشفهية لم تمت - ولا أظنها تموت - وهي الرواية من أجل الإمتاع, لأن هذا النوع يزدهر في بيئة الاسترخاء والترف.
وإذا استثنينا ما سجله بعض المستشرقين والرحالة الغربيين أمثال سوسين وغيره, من الشعر النبطي اعتمادا على بعض الرواة المجهولين, فإنه يمكن القول إنه منذ مطلع السبعينيات الهجرية - تقريبا - بدأت موجة التدوين الحقيقية للشعر النبطي ونشره, واعتمد الناشرون في مطلع تلك المرحلة على ما وصلهم من روايات شفوية تم تدوينها, وكان الرواة وقتها يختلفون في مسألة (الوعي بأهمية الضبط) التي أشرت إليها سابقا, وقد انسحب هذا الاختلاف بهذه المسألة على الناشرين أيضا, وبما أن نشر الشعر النبطي كان جديدا في تلك الفترة فقد أقبل الناس عليه إقبالا شديدا أغرى بالتوسع في النشر, لكن هذا التوسع كان يحتاج إلى (محتوى), والمحتوى يحتاج إلى فرز وتدقيق, وهذا يتطلب وعيا بأهمية الضبط والدقة أولا, وخبراء قادرين عليهما ثانيا, ووقتا مناسبا ثالثا, وهذا كله كان غير متوافر لدى كثير من الناشرين, لذلك أهملوا وقار (الكيف) وفضلوا عليه طيش (الكم)!
لم تكن مسألة (الضبط) مهمة في تلك الفترة بقدر ما كان المهم هو إرواء غليل المتعطشين لهذا النوع من الأدب, خصوصا أن القبلية والمناطقية كانت ولا تزال ذات أثر فعال في التسويق الذي يُنعش هذا النوع من الأدب ويوفر له سبل الرواج.
وقد فطن المرحوم الأستاذ المحقق خالد الفرج إلى ما شاب الشعر النبطي من تشويه وتحريف بفعل الرواية الشفهية, ونبّه عليه في مقدمة الجزء الثاني من كتابه الخالد (ديوان النبط).
وإذا كانت أخطاء الرواية في بدايات نشر الشعر النبطي مقبولة إلى حد ما, بحكم أن النشر يسبق التحقيق دائما, فإن من غير المقبول استمرار نشر الأخطاء, وعدم مراعاة مسألة (الضبط) الذي يسعى إلى نشر الحقيقة ونفي ما سواها, عن طريق تنقيح النصوص والأخبار ومحاكمتها.
واليوم انفتح باب كبير للرواية الشفهية, لكن ليس بغاية (الضبط) كما أشرت من قبل, ولكن بغاية (الإمتاع), والإمتاع مطلب إنساني لا علاقة له بالظروف, ولذلك فإنه يتخذ أشكالا متعددة تناسب تلك الظروف.
و(الرواية للإمتاع) فتحت اليوم أمام الكثيرين من الموهوبين في مجال الإلقاء فرصا جيدة للظهور الإعلامي, وقد دخل هذا المجال للأسف متقمصون لشخصية الراوية, بغاية التكسب, أو التفاخر, أو تحقيق الذات وإرضاء نزعات النفس المتباهية, وربما كان الهدف المعلن وهو نشر الثقافة هو الأقل في سلم هذه الدوافع. فاتخذت الرواية أشكالا تناسب معطيات العصر الحضارية, إذ لم ينتظر الراوي (الحقيقي أو المتقمّص للدور) أن يحضر إليه المتلقون والمعجبون, بل داهمهم في بيوتهم عبر القنوات الفضائية, وفي سياراتهم وغرف نومهم عبر أشرطة الكاسيت والسيديهات المسموعة والمرئية.
وقد راجت هذه التجارة حتى إنها صارت مصدر دخل كبيرا للمنتج والراوي والمسوّق, وهذا الرواج أسهم للأسف في تحوّل (رواية الإمتاع) هذه إلى نقل للأكاذيب وترويج لها, وإلى منبر لبث الروايات والقصص غير الحقيقية - وما أكثرها! - التي اختُلقت قديما أو حديثا لسبب من الأسباب التي أشرنا إليها في الحلقة السابقة التي تقود إلى الانحراف المتعمّد عن تحري الضبط في صناعة الرواية. ومعظم الرواة الذين يروجون هذا النوع من الروايات يروّجونه بلا قصد, إذ لا تعنيهم مسألة (أهمية الضبط) بقدر ما يعنيهم إقبال المستمع, ورصد انفعالات الدهشة, وافترار الشفاه عن ابتسامات الرضا, وتلقي التصفيق الحار وعبارات التمجيد, حتى ولو كان ذلك على حساب الحقيقة وأعراض الناس. ولا شك في أن كثرة الجمهور التي تملأ النفس حبورا, والجيب نقودا.
وعدم اهتمام بعض رواة الإمتاع - قديما وحديثا - بمسألة الدقة والضبط في المرويات ما هو إلا امتداد لعدم اهتمام النسبة العظمى من جمهورهم المعني بالإمتاع ولا شيء غيره.
والحق أن إطلاق اسم (رواة) على هذا النوع من الرواة فيه كثير من التجاوز, لأنهم في الحقيقة ليسوا رواة بل متقمصون لدور الرواة, فهم قصاصون يبيعون القصص لأجل الإمتاع, بغض النظر عن أي اعتبار آخر.
لقد جنى (رواة الإمتاع) على الحقيقة وعلى كثير من الشخصيات الأدبية, وعلى الأدب جناية كبرى, فصاروا يتلقّطون الروايات ويجمعونها بلا تدقيق ولا تحقيق, وصار معظمهم كـ (حاطب الليل) لا يميز بين العود والحية. والهم الأكبر لديه هو الانفراد بالرواية المثيرة, والتفاخر بها - تصريحا أو تلميحا - كما يتفاخر الصحفيون بالسبق الصحفي!
ومعظم جمهور (رواية الإمتاع) يتأثر بما يسمعه من الراوي ويأخذه على علاته ويصدقه, وربما تبناه ودافع عنه عندما تحين المناسبة, لأنه يثق بالراوي كثيرا, والنفس مفطورة على حب من يسعدها ويمتعها, ومفطورة على الدفاع عن معلوماتها ومحفوظاتها بغض النظر عن صوابها وخطئها, وإذا كان معظم جمهور (رواية الإمتاع) من العامة فإن ترويج الروايات غير الصحيحة يمر عبر هذا الممر الحيوي.
ومن المؤسف أن نجد من الباحثين أو الكتّاب من يروّج الروايات الشاذة, إما لكون رواتها مجهولين, أو لتعارضها مع روايات أخرى أكثر دقة وضبطا وثقة.. أو لغير ذلك, فيمررها على المتلقي, بتحيّز لا يدعمه دليل. ومنهم من يؤسس دفاعه - عما ينقله من المرويات الشاذة - على فروض لم تتأكد, والانحياز في تحقيق الروايات, واعتماد الفروض على أنها حقائق قبل أن يُثبتها التحليل والتحقيق السليم, خلل منهجي ينسف جهود الكاتب, ويقلل من قيمة المرويات.