يبقى فقيدُ الوطن الكبير معالي الدكتور غازي القصيبي، طيب الله ثراه، رمزاً جميلاً لكلَّ ما هو جميل، لن ينسينا إيّاه ظرفُ زمان ولا مكان ولا حَدَث، وقد عُرف بأدبه الرفيع الذي يشغل مسَاحاتٍ شاسعةً من (قارّتيْ) الشعر والنثر! كان رحمه الله يسْتمطرُ المآقي حين يتَحدثُُ عن فقد حبيب أو صديق، شعراً
أو نثراً، وكان يمتُع العقلَ والفؤادَ بطروُحاتِه الجادة، مثْلما كان يرسمُ ابتساماتِ الرضَا عبْر بعض (مداخلاته) الشعرية أو النثرية ناقِداً لأمرٍ أو سَاخراً من آخر، أو (مناكفاً) بلا ابتذالٍ ولا إسفافٍ ولا عِوَج في القولِ أو القَصْد!
وتحتفظُ ذاكرةُ الشعر الجميل بالعديد من (الإخوانيات) القصيبيبة العذبة التي كان يتجَاذَبُ من خلالها الحوارَ مع أنْدادِه من الشُّعراء، ويمكن تصنيفُ بعض تلك (الاخوانيات) بـ(الشعر الفكاهي) القويَّ متْناً والغزيرِ معْنىً والنقيَّ قصداً، ولم تخلُ (اخوانياته) من حسَّ إنسانيَّ رفيع ينثرُ من خلالها عناقيدَ الحُلْم بالإصلاح والصّلاحِ في أمُورٍ شتى!
كان للإدارة نصيبٌ من تلك (المناوشات) الشعرية الدافئة، (يهجو) من خلالها برفقٍ بعضَ (الاجتهاداتِ الإدارية) التي تُنْبِئُ عن شيءٍ من الغلُوّ باسم الانضباط والحرص على حفْظِ المال العام أو أيّ قيمةٍ أخرى تَتَوازَى معه أهميةً، وكان يكتبُ ذلك بأسلوبٍ ممتعٍ وسهلٍ ممتنعٍ معاً، يجمعُ بين مِلْحة الطرفة وصلابة الجدّ، وكان يقيّم بعض الممارسات الإدارية متّكئاً على معدنه النقيَّ نزاهةً وخلقاً، ثم ينتقدُها شعراً أو نثْراً، وفي كل الحاليْن كان يحرص على (تشخيص) ما يراه خطأً دون أن يُعرَّيَ فاعلَه من كرامةِ الإنسان فيه، استهزاءً به أو تشهيراً.
سأكرسُ ما بقيَ من المساحة المتاحة لهذا المقال بطرح مثالٍ جميلٍ من (إخوانيات) فقيدنا الأجْمل، غازي القصيبي طيب الله ثراه، تتمثّلُ في قصيدة رائعةٍ بعنوان (رفْقاً بنَا) تضمّ ثلاثة وعشرين بيتاً (يهجُو) فيها شخصيةً إداريةً كان يتعامل معها في أحَدِ الأجهزة الحكومية إبَّانَ شغله منْصبَ سفير المملكة في لندن. وقد عبَّر الشاعرُ الكبيرُ عن (امتعاضه) من بعض ممارسات ذلك الإداريّ في التعاطي مع بعض المعاملات المالية والإدارية الخاصة بالسفارة، فهجَاه شعْراً هِجَاءً أفْرغَ من خلاله خلاصةَ (معاناة السفارة) في ممارسة بعض مهَامِها المالية والإدارية، تارةً بما أسماه (التدقير) في مسألةٍ لا تَحتملُ التأويلَ أو التعطيلَ، وأخرى باستنباطِ (شروط) أو (ضوابط) لم يَردْ بها نصُّ صريحٌ بقصْدِ عَرقلةِ مهمةٍ ما، وثالثة بطرحِ (ملاحظةٍ) طارئةٍ يتَعثَّر بسببها ومن أجلها الإنجازُ، ونحو ذلك من (مسامير التدقير) التي يزْرعُها مَنْ بيده الحلُّ والعقْدُ من بعض الإداريين المسكونين بالحسَّ البيروقراطي.
وقد اصطفيت من تلك القصيدة عَدَداً من الأبيات أزعمُ أن لها دلالاتٍ صوّرتْها قريحةُ غازي أبْدعَ تصوير، حيث يقول في مطلع القصيدة، مخاطباً المسؤول المعنيّ بموضوع السفارة:
إليك يا (............. )
أشكوكَ باللوعةِ الحرَّى وبالأسفِ
أقسمتَ ألاَّ ترى مني معاملةً
إلاّ وكفَّنْتَها في أبيضِ اللُّحفِ
«دقَّرتَ» تدقيرةً يزهُو بروْعتِها
«ممثّلُ المال» وهو الداقِرُ الحرَفـي
فوراً تُرجعها «فيها ملاحظة»
ياقوم! أخطأتم في اللاّم والألف
يا ناس! لم تنْشرُوها في جرائدهم
هذا النظام كما قد صاغه (حنفي)!
ولا وضَعْتمُ عليها «دمغةً» وأنا
بدون ذلك لا أعطيكم سُلفِي
**
ثم يمضي الشاعر في وصف فتن (الروتين الإداري) وصلفه، فيقول:
رفقاً بنا! نحن أقوامٌ بلا ظهر
لم يبقَ في ظهرنا ريشٌ لمنتَتفِ
هذي «خزينتنا» باتَتْ وليس بها
سوى الفواتير والإملاقِ والقرفِ
كم هدّدُونا ببوليس.. ومحكمة
وقبل ذلك بالتشهير في الصحف
لا يدفعُون ريالاً في مواصفةٍ
أما إذا جاء مجانا لهم فصف
وليس يوجد «تصنيفٌ» يصنّفُهم
ولا «شهادة تقييم» من الغرفِ
وأنتَ تطلبُ هذا كلّه.. جنفٌ
ألاَ توافقني؟ من أعظم الجَنفِ
وبعد..،
رحم الله أبا سهيل المتعدّد المواهب، فقد أنصف كثيرين من (جنف) (الروتين)، في أكثر من مكان وزمان!