لن يسقط الإرهاب باختفاء قاعدة بن لادن. فالإرهاب ليس فقط نتاج منظمات إيديولوجية متعصبة، والإرهابيون ليسوا مجرد أشرار يريدون قتل الآخرين، بل يائسون من عولمة تسحق ببرودة ديمقراطية كل معارض عقلاني لها، فلا تدع مجالاً إلا للعنف الفوضوي..
هذا الطرح له حضور مزعج بين النخب الغربية المثقفة، زاعماً أن الإرهاب ليس وليد فكرة، بل وليد مناخ عولمي يحاصر المعترض في زاوية لكي يموت ذليلاً معزولاً.. وهذا العنف لا علاقة له بالإيديولوجيا كفكرة ولا بالإسلام كدين، بل هو نتاج طبيعي من مفرزات العولمة الرأسمالية الشرسة.. هذا ليس تبريراً للعمل غير الأخلاقي للإرهاب، بل هو وصف للحالة..
إنه الإرهاب الفوضوي ضد الإرهاب المنظم.. إنه إرهاب ضد الإرهاب على حد وصف أهم مفكر غربي في أواخر القرن العشرين: جان بودريار في مقالته المشهورة التي نشرها في ليموند الفرنسية بعد الهجوم على مركز التجارة العالمية في نيويورك في التاسع من سبتمبر، بعنوان «روح الإرهاب»، ثم حولها إلى كتاب أثار زوابع أخلاقية ومنهجية.
وإن جاز لي أن ألخص مجمل أطروحة بودريار المعقدة، فهي تبدأ بوصف حادثة سبتمبر بأنها أم الأحداث، والحدث الصافي الذي يشكل جوهر كل الأحداث.. الحدث المطلق تجاه القوة المطلقة. الحدث الذي حلمنا به ولم نفعله تجاه القوة التي استبدت بالجميع.. حادثة إرهابية أبعد من الحقد، أبعد من صراع الحضارات أو الأديان، حادثة صنعها أولئك الذين سقطوا في الجانب الخطأ من العولمة، فالداخل في العولمة لا خيار له حين يعترض عليها سوى الفناء المنعزل.. ينتحر معنوياً أو مادياً..
لكن هذا الانتحار الجديد رفض أن يكون انتحاره ذاتياً منكفئ، ومارس انتحاراً خارجياً ليدمر ما يمكن تدميره.. والمسألة ليست وعداً بالجنة، فالجنة ليست مشروطة بالجهاد ولا القتال.. والمسألة ليست إسقاط نظام، فهذا الإرهاب لم يُسقط نظاماً سياسياً ولا اقتصاديا بل لم يسقط أي كيان واقعي، إنها حرب رموز.. فالإرهاب أسقط رمزاً وقيما أزعجت العولمة المبتهجة بانتصاراتها حين أفرزت بشاعتها في سجن أبو غريب وجوانتانامو وغيرهما..
إنها حرب ذاتية داخل جسد العولمة.. فالعولمة لم يعد لها عدو خارجي بعد الحرب الباردة، فتشكلت فيروسات ممرضة في خلاياها.. فمرض العولمة الداخلي هو عنفها حين تحتكر رواية الحقيقة وتنفي رواية الآخرين، باحتكارها للعلم والتكنولوجيا والمعلومات والسوق، ليتم من خلالها تعريف وحيد لا يقبل التنوع للثقافة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
لم يكن بودريار، بروحه الفرنسية المهيأة للاعتراض على كل ما هو أمريكي، وحده آنذاك في العالم الغربي، فهناك عدد لا بأس به مثقفي أوربا يميلون لهذا الطرح، بل حتى في أمريكا نجد الكاتب الصحفي الأكثر شهرة توماس فريدمان اعترف بعد حادثة سبتمبر أن العولمة لها جانبها المظلم وأنتجت الصراع جنباً إلى جنب مع شبكة الاتصالات الإلكترونية، مشككا بقدرة العولمة في الحرب على الإرهاب. ولا ننس المخرج الأمريكي الحائز على الأوسكار مايكل مور في فيلمه الوثائقي المشهور «فهرنهايت ??/?» أشهر الأفلام الوثائقية على الإطلاق الذي سبب صداعاً مريراً لإدارة بوش.
الرأسمالية كان لها خصم خارجي اشتراكي (الاتحاد السوفييتي) يوازن معها لعبة الخير والشر. وفي تلك اللعبة ثمة توازن للرعب وردع متبادل.. مما سمح للمعارضين في كلا الجانبين أن يطلقوا مشاريعهم.. تنجح حيناُ وتفشل أحيانا، لكنها كانت تدع لعبة الحياة تسير وفق استحقاقاتها المرحلية، منتجة تنوعاً طبيعياً وتوازناً في طرح المشاريع الكبرى وتعددية في سرد الحقيقة. إنما بعد انتهاء الحرب الباردة بانتصار الرأسمالية، صارت كل وسائل الاعتراض تصاغ بالطرق التي تحددها العولمة الرأسمالية وفق ما يناسبها.
مثلاً، إذا أراد عمال مصنع الإضراب عن العمل، ستقول لهم الإدارة حسناً هذا حقكم، ولكن أتعرفون أننا لسنا بحاجة لكم، ويمكنكم الذهاب لبيوتكم أو للجحيم، لدينا عشرات المصانع في بلدان عديدة.. الإضراب على الطريقة القديمة لم يعد يجدي كثيراً إلا إذا نجح افتراضياً في الإعلام الإلكتروني وليس واقعياً.. أي إذا نجح في تدمير صورة المصنع افتراضياً أو في تفجيره إرهابياً.. وكذلك كافة أنواع الاعتراض القانونية وفقاً لشرعية العولمة.
مأزق العولمة أنه لا يمكن اعتراضها ففقدت مضاداتها الحيوية.. تلك ليست مؤامرة بل أن الإجراءات وصناعة القرار أصبحت مندمجة عالمياً وتندفع كتيار يصعب السيطرة عليه.. حتى أنك لا تعرف من هم المسؤولون أو المشاركون في اتخاذ القرارات.. فالقوى المنظمة والمحتكرة للتجارة والإنتاج العالمي لم تعد واضحة ولا محددة، بل تتمثل في شبكة معقدة ومتداخلة، قد تبدأ بالإدارة الأمريكية، وقد تبدأ بسلسلة متناثرة من صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، منظمة التجارة العالمية، وول ستريت، الخزانة الأمريكية، ولكنها لا تنتهي عند طرف..
فمَنْ هي الطبقة الحاكمة لهذا العالم التي يمكن محاسبتها؟ يحددها ماك مايكل بثلاث جهات: البيروقراطيون والسياسيون الذين يضطرون لإتباع التوجهات الاقتصادية العالمية الجديدة، ومالكو الشركات المعتددة الجنسية، ومديرو المنظمات المتعددة الأطراف.. لكن كيف يمكن مواجهتهم أو إخضاعهم للمراقبة وللمحاسبة؟ وقد أصبح الحال كما نقول في العربية (ضائع دمهم بين القبائل)!..
كل ذلك أدى إلى أنَّ طرق المعارضة والمقاومة والاحتجاجات التقليدية أصبحت أقل تأثيراً؛ لأن الخصوم غير محددين.. وذلك يعني أن هذه الطرق لم تعد مغرية أو جذابة لأولئك الذين يرغبون في التغيير الثوري والعمل العنيف لإحداث التغيير.. فيغدو كما أشار ليسلي سكلير أن الحركات الوحيدة الفعّالة هي تلك التي تتمكن من إيقاع الفوضى في منظومة العولمة بطريقة فعّالة، وفي نفس الوقت لا تستطيع مراكز العولمة النافذة أن تتعامل معها ولا أن تحتويها ولا أن تستقطبها..
وهذا هو حال الإرهابيين، الذين قد يدمرون أي هدف في أي وقت وأي مكان، ولا يمكن تحديدهم في بلد معين ولا طبقة ولا مهنة معينة، ويصعب توقع تنفيذ وقت ومكان ونوعية أهدافهم القادمة، وبالتالي لا يمكن السيطرة عليهم.. إنهم أشباح ضد العولمة من داخل خلايا العولمة! فلا عدو خارج العولمة يمكن أن يردعها، وعندما لا يوجد لديك عدو خارجي ستضعف مقاومتك من الداخل وتتورط بأمراضك الداخلية.. الإرهاب هو من الأعراض الجانبية للعولمة!
alhebib@yahoo.com