جاءت التعديلات الجديدة في نظام المطبوعات والنشر بمبادرة جديدة للمجتمع، وهي الفصل بين الشخصي والموضوعي في النقد العام، وفي ذلك خروج من نسق قديم يتصف بمهاجمة وإقصاء المخالف من خلال الإساءة لشخصيته وذاته، كذلك جاء في أحد بنود النظام الجديد أن لا يخالف النشر والإعلام والمطبوعات ما جاءت به الشريعة الإسلامية، ويحتاج هذا الأمر إلى تفصيل، ولا خلاف أن الدين الحنيف لا يعارض الإبداع والتطور، لكن ما يجعل من الأمر في خانة العسر هو اختلاف التفسيرات الفقهية للشريعة، مما يجعل من الأمر عرضة للاجتهاد والخطأ والأحكام المتضادة.
دخلت إحدى الصيدليات مؤخراً، ولاحظت أن الصور التي على المستحضرات التجميلية مطموسة، وعلمت من صاحبها أنه تلقى أمراً بإزالة الصور أو تتم مصادرة المستحضرات حسب قوله، وحسب علمي تم تنفيذ الطمس حسب رأي فقهي يُحرم الصور وبالتالي يخالف الشريعة، ومع أن المثال خارج الموضوع إلا أنه يتقاطع مع ما يتم نشره في الإعلام، ويتعارض كلياً مع ما يحدث في المجتمع من تفاعل مع وسائل الإعلام التي تزدحم بالمسلسلات والبرامج الفنية وصور الممثلات، كذلك تظهر صور مشابهة في وسائل الإعلام المطبوعة، وحسب الرأي الفقهي الذي يحكم من خلاله سلطة دينية تنفيذية يعتبر مخالفاً وتجب مصادرته، وقد تحق عليه العقوبة المالية.
كذلك يدخل في ذلك كتابة المسلسلات التلفزيونية وهل سيدخل مؤلفو حواراتها في المخالفة الشرعية، لا سيما أن هناك حركة فنية متطورة في البلد وأصبح إنتاجها ينافس البلاد العربية الأخرى، ولن أستثني كتّاب الأغاني العاطفية والتأليف الموسيقى، وهل يدخل ضمن مخالفات النشر الإعلامي، وقد لا يتجاوز سيناريو وحوار مسلسل طاش ما طاش القادم إذا ما تم تطبيق القانون الجديد عليه، فهو يدخل في مساحة النشر الإعلامي.
نالت رواية الكاتب السعودي عبده خال «ترمي بشرر»، جائزة البوكر العالمية في نسختها العربية، وأكاد أجزم أنها لن تجتاز امتحان نظام المطبوعات الأخير إذا تم تطبيق المخالفة الشرعية حسب المنهج الفقهي الذي يمثله آراء بعض الفقهاء المحليين، وستسقط في الامتحان غيرها من الروايات التي نشرها خلال العقود الأخيرة بدءاً من شقة الحرية للدكتور غازي القصيبي -رحمه الله- ومروراً بروايات تركي الحمد وانتهاءً برواية عبدالله بخيت الأخيرة.
أيضاً حسب الرؤية الفقهية المعاصرة يستحق المخالفة أيضاً الكتّاب الذين قرروا الهروب من الكتابة في الشأن العام، إلى الكتابة عن نانسي عجرم وهيفاء وهبي، فهؤلاء الفنانات يدخلن في السافرات المتبرجات المحرّم النظر إليهن، والقائمة تطول، ولا شك أننا نواجه معضلة التفسير الفقهي لما يخالف الشريعة، مع احترامي وتقديري الكامل للفقهاء وما يجتهدون فيه في القضايا المعاصرة، لكن الأمر يعيد الكرّة مرة أخرى إلى مسألة أسلمة الأدب والفنون والتأليف والثقافة. بدأت قصة أسلمة الفنون والأدب والثقافة مع دخول تيارات الفلسفة والجمال الغربيين، والتي كان أحد أهم أبوابها ما يُطلق عليه بالنهضة العربية، والتي بدأت في القرن التاسع عشر على يد بعض المثقفين العرب، وكان من آثارها أن اعتنق كثير من العرب والمسلمين منطق الحداثة الغربية وتاريخها في تحررها من سلطة الكنيسة، مما أطلق عنان الإبداع في الموسيقى والفن التشكيلي والرواية وغيرها من الفنون بغض النظر عن التزامه بالأخلاق والقيم الدينية، ويدخل في ذلك التعددية السياسية والاختلاف والتنوع الثقافي، فكانت الانطلاقة التي اجتاحت العالم، واخترقت الصفوف والجدران، وما زال صداها يصل بدون استئذان إلى أي مكان على وجه الأرض.
قام تيار الصحوة الإسلامية بمحاولات جادة لمنافسة رواد ميادين الأدب والفن والثقافة المتحررة من القيود الفقهية، وقدمت نجومها في الأدب والشعر والإنشاد والرواية من خلال الرؤية الفقهية التي تدعو لأسلمة الثقافة والفن والأدب والرواية، لكنها حسب وجهة نظري لم تجد لها صدى أو شعبية بين الناس، وما زالت الأجيال الجديدة تبحث عن الفن والثقافة والرواية والسينما في حلتها الإنسانية غير الملتزمة بالرؤية الفقهية المعاصرة مع تقديري الكامل لمبدأ الالتزام بالأخلاق العامة في المجتمع، ولست من خلال هذا المقال في موضع الضد للفقهاء، لكنني أتساءل عن كيفية تطبيق فقرة ما يخالف الشريعة في نظام المطبوعات الجديد في ظل تصادم الرؤية الفقهية المحلية مع الفن والتأليف الموسيقي والثقافة والمسرح والتعددية والرواية المتميزة كما قدمها عبده خال في روايته الشهيرة ترمي بشرر !