في مقالة سابقة عنوانها (مطالب تحققت وآمال يرجى تحققها، أشرت إلى هبة الشعب التونسي المباركة بالقول: إن اكتمال تحقيق إرادة ذلك الشعب لا يتم إلا بإزالة بقية رموز العهد المطاح به؛
وفي مقدمة تلك الرموز أولئك الذين كانوا متنفذين في ذلك العهد. ومما قلته في تلك المقالة: إن ما قيل عن هبة الشعب التونسي يمكن أن يقال ما يشابهه عن الثورة المصرية الشعبية التي تصدرها الشباب من الشعب المصري العظيم. وكان من عظمة مواقف هذا الشعب المتعلقة بقضايا أمتنا العربية؛ وفي طليعتها قضية فلسطين، ضرب جيشه البطل أمثلة رائعة من التضحية في حرب الاستنزاف، التي تلت نكسة 1967م، ثم في حرب 1973م التي أثبت فيها ذلك الجيش عظمته؛ كفاءة وإقداما؛ في عبور القناة وتحطيم خط بارليف، وكما كان من قادته الأفذاذ في حرب الاستنزاف الشهيد عبدالمنعم رياض كان في طليعة أولئك القادة في حرب 1973م سعد الدين الشاذلي، ومما أشرت إليه في ختام تلك المقالة أن من الآمال التي يرجى تحققها أن يبعد عن مناصب الدولة؛ وبخاصة ذات الأهمية القصوى، أي رمز من رموز العهد السابق. ولقد تحقق هنا الأمل في مصر بالذات ولله الحمد والمنة.
ما تحقق في مصر جاء بعد أن كاد يستيئس المشفقون من العرب على قضية أمتهم الأولى.. قضية فلسطين، وكنت واحداً من هؤلاء المشفقين، وقد بدأ إحساسي بالإشفاق عند نهاية حرب 1973م؛ إذ انتهت النهاية المؤسفة عند خيمة 101 المشهورة، التي كان لكيسنجر حينذاك دور كبير في التعاطي بشأنها, وقد كتبت من وحي ما كان يحدث قصيدة بعنوان (الأساطير) عبرت بها عن مشاعري تجاه الأحداث.
وتوالت الأحداث المؤسفة المؤلمة يمسك بعضها برقاب بعض؛ مروراً بمعاهد كامب ديفيد، واستمراراً في السوء إلى أن أصبحت القيادة في مصر تستقبل بالأحضان على أرض الكنانة زعماء الإجرام من الصهاينة أمثال اليعازر الذي أمر قواته أن يجبروا للمستسلمين من أفراد الجيش المصري في حرب 1967م على أن يتمددوا على الأرض، ثم أمر أن تسحقهم المجنزرات الصهيونية.
ووصل الأمر إلى أن تعلن وزيرة الخارجية الصهيونية بكل بجاحة؛ وهي جالسة بجانب الرئيس المصري في أرض الكنانة، أن الكيان الصهيوني سيقوم بمهاجمة غزة، ليس هذا فحسب؛ بل إن القيادة المصرية تمادت في غيها بحيث راحت تسهم بمحاصرة أهل غزة، وقررت أن تعمل سداً من فولاذ لإحكام الحصار على أولئك الأهل المعتدى عليهم, ولقد دفعني كل ذلك إلى محاولة التعبير عن مشاعري تجاهه بقصيدة عنوانها (عام من الذل)، ومما قلته في تلك القصيدة؛ مشيراً إلى موقف رجالات العهد المطاح به:
فغدوا للغاصب خداما
أو جُنداً من بين العسكر
يبدون الطاعة في خوف
ممن بالأمر قد استأثر
وإذا ما احتاج لبرهنة
من جملة طاعات تذكر
فحصار يكتم أنفاساً
وجدار من دون المعبر
سد لكن من فولاذ
خشية أن يخرق أو يكسر
والطاعة كنز لا يفنى
والفاهم بالدنيا أخبر
وفعال مطيع قد تدنو
من شرك أكبر أو أصغر
والويل الويل لمن يعصي
رغبات من عم أكبر
أو يعصي أمر نتنياهو
في أرض المسرى والمحشر
يا عاماً مر وكاتبه
سطر عن وضعي ما سطر
عن شعب دجن مقهوراً
وزعيم أخرس من يقهى
عند المحتل له نفس
أطيب من رائحة العنبر
وحديث سبك عبارته
أحلى في الطعم من السكر
وعلى محكوم مضطهد
أمضى في السطوة من عنتر
ومولى ينكر معروفاً
ويمارس في النادي المنكر
وعصابة سوء فاسدة
في نهب المال هي الأشطر
يا عاماً مرّ وطابعه
ذل في المظهر والمخبر
داست صهيون كرامتنا
وبقينا بالشكوى نجأر
أو ما في الأفق سنا أمل
بربيع مخضل أخضر؟
وأباة سيف عزائمهم
يجلو أدران من استكبر؟
سيف للأمة مسلول
يستأصل شأنئها الأبتر؟
ولقد نشرت القصيدة كاملة، في بداية هذا العام، ضمن مجموعة شعرية عنوانها لا تلوموه إذا غضبا، وما أشرت إليه بالنسبة لقيادة مصر المطاح بها؛ خضوعاً أمام أعداء الأمة وتجبرا على إراد الشعب، وانغماساً في الفساد، ظهرت صورته جلية للجميع، أما ما تمنيته في الأبيات الثلاثة الأخيرة من القصيدة فقد تحقق للكثير منه - ولله الحمد - بهبة الشعب المصري التي قادها شبابه المتدفقون حيوية وتصميم إرادة.
وثمرات هبة الشعب المصري عديدة ومتنوعة، وواضحة كل الوضوح، ومن هذه الثمرات - بالنسبة لقضية فلسطين بالذات - تعمق الثقة لدى الفلسطينيين بقيادة مصر الجديدة بحيث توصلوا - برعايتها - إلى مصالحة يرجو المخلصون لأمتهم أن تتحقق الآمال المرجوة منها. على أن ما رجاه كاتب هذه السطور؛ مخلصاً - بالنسبة لهبة الشعب التونسي وهبة الشعب المصري - من إزاحة الفاسدين والمفسدين من رجال العهدين المذكورين، الذين اتضح للعالم أجمع فسادهم وإفسادهم، هو ما يرجوه هذه الكاتب بالنسبة للمصالحة الفلسطينية، ذلك أنه بدون إزاحة الرموز الفلسطينية الفاسدة المفسدة المتعاونة تعاوناً يعرفه الكثيرون مع قادة الكيان الصهيوني - وهم معروفون - فإن المصلحة المرجوة من المصالحة، التي تمت برعاية القيادة المصرية الجديدة على أرض الكنانة، لن تكتمل.
وفق الله الجميع إلى السداد قولاً وعملاً.