في كتاب «سير أعلام النبلاء» للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ت 748هـ رحمه الله بمجلداته الخمسة والعشرين حكايات وأخبار ممتعة يسترخي تحت أفيائها المتوترون مما ينتابهم من أوضاع أمتهم من إحنٍ ومحن
وشتات فكري، وكم من عاقل شقي بعقله يلوذ بدفء التراث حين تضيق عليه الأرض بما رحبت، ومما علق بالذاكرة الحرون من لطائف الأخبار وغرائب الآثار ومما أخاف أن أكون معنياً به لأنني لا أنفك من ذكر مكتبتي والإحالة إليها والانطلاق من حقولها، وهو ما يمتعض منه البعض ويحملهم على تلمس الأشباه والنظائر ممن يماثلونني بالتباهي بمقدراتهم ما قرأته منذ حين عن سبب تسمية «ابن خلكان» بهذا اللقب أنه كان كثير الترديد لكلمة «كان أبي» فقيل له: «خَلِّ كان» أي أترك الفخر بأبيك وتحدث عن نفسك وما أنجزت.
وحين أحيل بعض المثيرات إلى ما في مكتبتي من حقول معرفية متعددة ومتنافرة فإنما أفعل ذلك لأنني في الغالب أكتب مقالي الأسبوعي وسط مكتبتي وبين كتبي، وكثيراً ما أنهض إلى أي حقل من حقولها المعرفية ذات العلاقة بموضوع المقال لأستزيد مما في ذلك الحقل من علوم وشواهد، فالذاكرة لم تعد كما عهدتها من قبل أن المعلومات تتفلت منها كما تتفلت الإبل من عقلها، وتلك سنة الله في خلقه إذ كلما تقدمت السن بالإنسان وهن عظمه وضعفت ذاكرته واشتعل رأسه بالوساوس والكوابيس والخوف من المجهول، ونسي بسبب ذلك ما كان يحفظه من قبل، ولا عبرة بمقولة «العلم في الصغر كالنقش في الحجر» وكيف لا يخشى العقلاء تفلت الأوابد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخاف تفلت الوحي فكان يسابق جبريل عليه السلام في القراءة حتى قال الله له {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}. والقليل من المسنين من تظل ذاكرته قوية كما لو كان في مقتبل العمر، ولكن الشاذ لا يكسر القاعدة ولكنه يقويها.
فذكري إذاً لمكتبتي لم يكن من المباهاة، ولكنه حق مشروع، تستدعيه المواقف، ولقد يكون ذكرها شاهد عدلٍ لتعزيز رؤيتي وتثبيت فؤادي، وهي لي بمثابة قوة الردع لصد الاعتداء وإرهاب الأعداء وحفظ الساقة.
أقول قولي هذا وأنا أكتب هذا المقال عن العقل العربي وما انتابه من دراسات مسرفة في النقد وأخرى تراوح بين العنف واللين. وحقل العقل في مكتبتي من أوسع الحقول وأحفلها بالدراسات والمترجمات والرؤى والتصورات، ولقد أثار فكرة الحديث عن العقلاء والمجانين لقاء ضم نخبة من المفكرين العرب ممن استضافهم المهرجان الوطني للثقافة والفنون، وكان من بين الحاضرين الأستاذ «هاشم صالح» وهو وإن كنت أختلف معه فإن احترامي له بحجم اختلافي معه لأنني أبحث عن الكفاءات العلمية التي تضيف إلى معارفي معارف، ولقد استفدت من أطروحاته ومترجماته، ولاسيما أنه ربما يكون الوحيد الذي تعهد فكر «محمد أركون» بالترجمة الدقيقة والتوصيلية، والاثنان ربما يكونان من مُوَثِّني العقل، وفي هذا اللقاء الهامشي، وأجمل اللقاءات اللقاءات «اللوبية» لأنها تتوفر على فضاءات رحبة، أفضنا بالحديث عن العقل العربي، وما ينتابه من تحولات، وما يتعرض له من تمردات تصل إلى حد الجنون، ولقد يكون الهدامون والملحدون والوجوديون والفوضويون بعض فلول الصراع بين الدين والعقل والعلم وتنازع السلطة فيما بين هذا الثالوث الأخطر في حياة الفكر العالمي والعربي على وجه الخصوص ولقد جر الحديث العقلاني «رابطة العقلانيين العرب» التي ينضوي تحت مظلتها لفيف من المفكرين العرب المنتمين وغير المنتمين المتمردين والمنضبطين وما أكثر الروابط والمؤسسات والمنتديات التي يجمعها فكر واحد وهدف واحد وإن تعددت المسميات وتنوعت الأساليب والآليات والمناهج.
ومكمن الداء أن المفكرين العرب يحسّون بالتخلف العربي ويعانون مرارة الانكسار والفوات الحضاري، ولكنهم لا يحسنون القول فيه ولا يجيدون فن التخلص من عقابيله وعقباته، والسمة الجامعة لهم جلد الذات والتمرد على الدين والأخذ بالحرية على غير وجهها، واطِّراح عالم الغيب أو أخذه بدون قداسة. والداء العضال الذي قعد بالنخب العربية من خلال منظماتهم وتنظيماتهم وألهاهم عن كل حل سليم يقيل العثرة ويحفظ ماء الوجه أن للساسة خطابهم وللمفكرين خطابهم ولأهل الذكر من علماء الشريعة خطابهم، والرأي العام المستهدف بكل هذه الخطابات لا يدري ماذا يدور، فهو إما يَعْمه في لهوه وتسليته أو ممتحن لا يأمن على نفسه ولا يجد قوت يومه وليلته، ومن ثم فهو آخر من يعلم، وهو كمن تؤخذ الدنيا باسمه ثم لا يحصل منها على البلغة. وكل فئات النخب تقدر ولكن الغرب المهيمن بإمكانياته ومؤسساته تضحك تقديراته النافذة، وإذا كان المموضعون أو المؤلِّهون للعقل العربي قد وضعوا لهم رابطة تجمع كلمتهم وتوحد جهدهم ويعرفون من خلالها شؤونهم فإن حالة من الإحباط والتمرد والرفض بلغت ذروتها حتى أصبح المفكر يهذي كالمحموم، وهو بأمس الحاجة إلى رابطة تسمى «رابطة المجانين» لتعي واقعه وترأف بحاله وتقبل هذيانه وتوفر له الأجواء الملائمة لوضعه المأزوم والخلطاء المماثلين له الذين يبادلونه القول، و»رابطة العقلانيين» بما هي عليه من صراع مستحر مع الذات ومع الغير من الممكن أن تكون من خلال واقعها لا من خلال مسماها رابطة لهذا الصنف من الناس فما تديره من آراء وما تعالجه من قضايا وما تطرحه من رؤى مدعاة إلى اختلاط العقلاء بالمجانين، فالذين يكتبون في الهواء الطلق ثم لا يقيمون وزناً لنسق ولا لسياق ولا يحفلون بمرجعية ولا يحتكمون إلى نص ولا يهتمون بمحققات الحضارة ولا بمؤشرات الخصوصية هم في الحقيقة مجانين وإن كانوا ألد الخصام، أو لا يكادون يبينون. ومن استعاد ظواهر الفلسفة الحديثة من خلال تياراتها ومذاهبها وأعلامها وقضاياها راعه ما يسمع ويرى، ومن تعقب مخلفات الحداثة وما بعد الحداثة، أصيب بالذهول وخيبة الأمل، ولقد يكون الجنون في ظل هذه الظروف وتلك النتائج سيد الموقف إن لم يتدارك العقلاء الحقيقيون الأمر.
يتبع...