هناك كثيرون من الرجال الذين عرفهم أبناء هذا الجيل المعاصر، احتلوا مكانة بارزة في قلوب أبناء معاصريهم، وسيحتلون مساحات في صفحات تاريخ هذا الوطن، لأنهم بجهدهم، بعطائهم، بوطنيتهم، بإخلاصهم، بتفانيهم في
خدمة هذا الوطن هم من جعلوا لأنفسهم هذه المكانة.
لو استعرضت قائمة تلك الرموز الشامخة الذين عرفتهم وعاصرتهم لطال بنا الحديث؛ ومن حقهم علينا أن نطيل الحديث عنهم، وأن نوفيهم حقهم. أما من لم أعاصرهم، وربما لم يعاصرهم كثيرون من الجيل الذي سبقه جيلي فهم كثر، وربما يعدون بالمئات أو أكثر. الجميع ذهب. ولكن لم تذهب ذكراهم لأنهم بأعمالهم الخالدة من أجل هذا الوطن سيظلون أحياء في سجل تاريخنا الوطني.
ولهم دين في أعناق أبناء هذا الجيل ينبغي علينا أن نفي به، وأبسط ذلك أن نستقصي تاريخ أعمالهم وإنجازاتهم وجسامة معاناتهم في سبيل بناء هذا الوطن معاناة لا يدركها إلا القليل من أبناء هذا الجيل؛ فما بالك عن أبناء الأجيال القادمة، الذين سيلحقون بنا اللوم إن لم نوفِ رموز هذا الوطن حقهم في تدوين ما نعرفه من تاريخهم، والبحث عن مازال مجهولا من مصادر المعرفة بأعمال وأحوال هؤلاء الرجال، وكذلك النساء اللاتي لا تقل معاناتهن عن معاناة رجالهن. السؤال الذي يفرض نفسه من سيتولى مسؤولية القيام بهذا الواجب؟ إن المسئولية تقع، في الدرجة الأولى على المؤرخين والمؤرخات السعوديين، من خلال جمعيتهم التاريخية، ثم يشاركهم في المسئولية دارة الملك عبدالعزيز. هذه الدارة التي تحمل اسم المؤسس، ومهمتها العناية بتاريخ هذا الوطن، وفي مقدمته تاريخ المؤسس ورجاله رجال التأسيس. يشارك في تحمل هذا الواجب أقسام التاريخ في جامعاتنا. والخروج من التقليدية في دراسة التاريخ وكتابته إلى الدراسة والبحث الجاد في كل جوانب من جوانب تاريخ الوطن ورموزه. ثم لماذا لا يكون لدينا مركز وطني مهمته العناية بكتابة تاريخ جيل التأسيس، مثلما هو الحال في كثير من البلدان المتقدمة. هذه المقدمة دفعتني إليها معرفتي الجيدة بمن سيكون الحديث عنه في هذه المقالة؛ ومعرفتي ومعرفة غيري من أبناء هذا الوطن اهتمامه المنقطع النظير، إلى جانب اهتماماته الوطنية بتاريخ هذا الوطن، وتاريخ المؤسس الملك عبدالعزيز، بل وحبه المتناهي له. بطل هذه المقالة هو الرمز الوطني الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري -رحمه الله -. هذا الرمز لا تمر مناسبة إلا وهو في الخاطر؛ ولعل أبرز المناسبات التي تتكشف فيها ذكريات هذا الرجل هو مهرجان التراث والثقافة الذي ودعنا موسمه السادس والعشرين بالأمس القريب.
أحببت الشيخ التويجري محبة صادقة قبل ثمانية وعشرين عاماً من أول مقابلة مباشرة لي به، وذلك حينما قدمت إلى الرياض لأول مرة في مطلع الستينيات الميلادية من القرن الماضي مع عدد من رفاقي من محافظة أحد رفيدة في منطقة عسير افترقت عنهم بذهابي إلى المنطقة الشرقية وتركتهم في الرياض يعيشون ظروفاً صعبة أحدها الشعور بالغربة وضيق العيش مع حداثة أعمارهم. بين فترة وأخرى كنت أقوم بزيارة الرياض، وأحرص على مقابلة رفاقي ومن انضم إليهم من الوافدين الجدد، ومعظمهم طلاب في مدارس ومعاهد مختلفة يسكنون في بيوت متواضعة في حي منفوحة، وكان اثنان منهم آثروا البحث عن عمل يؤمن لهم حياة أفضل الاثنان يعملان لدى الشيخ عبدالعزيز التويجري الذي أمن لهم السكن الجيد وتناول الطعام على مائدته التي تجمع كثيرين من الناس، ومن كل أنحاء البلاد؛ فكانا يحدثاني عن الشيخ التويجري، ولطفه وكرمه ومحبته للناس، وقضاء حوائجهم فازددت إعجاباً بشيخ كريم هذه خصاله وهذه مواقفه مع كل أبناء وطنه. من هنا كانت البداية بمعرفة الشيخ غير المباشرة؛ ذهبت للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم إلى بريطانيا امتدت لسنوات، ولكن لم أنقطع عن متابعة ما يُكتب ويقال عن الرجال الرموز، وتخصصت في علم التاريخ والسياسة، وبحكم هذا التخصص تعمقت في وجداني خصلتان حب الوطن، وحب تاريخه، وحب إنسان هذا الوطن الذي صنع التاريخ، وعشقت تضحيات الرجال المناضلين من أجل الحرية، والوقوف بقوة في وجوه كل من حاول أن يسلب منهم هذا الحق. وكتبت رسالتي الماجستير والدكتوراه في نضال شعبنا في الجزيرة العربية ضد طغيان محمد علي باشا حاكم مصر، وتسلط الحكام العثمانيين الذين أرادوا أن يفرضوا حكمهم بالقوة على أبناء هذا الوطن والمقاومة العظيمة التي استبسل أبناء هذا الوطن، في إبدائها ضد الغزاة، والبطولات والتضحيات في سبيل الحرية ومقاومة الطغيان. بكل أسف هذا التاريخ العظيم لأولئك الأبطال لم يعط الاهتمام اللائق بطهارة الدماء التي ارتوت بها أرض نجد وعسير خاصة. سجل جوانب من هذه البطولات كتاب أجانب من فرنسا، ومن إيطاليا وغيرهم، شاركوا في جوانب من هذه الحروب، وسجلوا مشاهداتهم وعرفها الغرب وظللنا نحن أبناء هذا الوطن نجهل هذه التضحيات، لأن تاريخنا الوطني كتب بشكل تقليدي ولا يزال أو بأيدي أناس لم يحسنوا قراءة التاريخ حتى يكتبونه. من هذه الأعمال التاريخية التي كتبها أحد الفرنسيين وهو شاب لم يجاوز عمره الثانية والعشرين من عمره كان من المرتزقة في جيش محمد علي باشا الذي شن الحملة تلو الأخرى على منطقة عسير -التي وقفت في طريقه صخرة صلدة - لبسط نفوذه على الجزيرة العربية، وإن كان هدفه الأول يتمثل في إسقاط الدرعية عاصمة الدولة وقلب قوتها إلا أن قوته فُلت على أيدي مقاومة عسير الأبطال، فلم يتحقق له وصوله إلى هدفه المنشود قبل أن يقضي على قوة عسير حيث كتب في تقرير مطول إلى السلطان العثماني في إستانبول بعد أن تمكن من حشد أكبر قوة عسكرية ضد عسير قادها بنفسه، وتمكن على إثرها من تحقيق نصر عسكري مؤقت بعد أن تم إخضاع عسير القوة الضاربة في الجزيرة العربية أصبح الطريق إلى الدرعية سهلاً. هكذا اعتقد محمد علي بينما لم يكن الطريق إلى الدرعية سهلاً، ولم يكن تحقيق نصره العسكري على عسير دائماً، فسرعان ما اندلعت ثورات المقاومة في عسير، وانتفضت الدرعية من كبوتها، والتقى الجناحان القويان في استعادة وحدة الجزيرة العربية، ومازال مع بقية صناع الوحدة الوطنية الحديثة من كل أبناء الوطن بزعامة الموحد العظيم الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه -هم جميعاً صناع الوحدة وحماتها. قمت بترجمة ما كتبه ذلك الفرنسي المشارك في حملات محمد علي باشا على عسير، وكنت حين الانتهاء من ترجمته ومن ثم نشره في عام 1414هـ في غاية السعادة، لأنني بذلك أشرك كل إخوتي وأخواتي أبناء وبنات هذا الوطن معي سعادة قراءة صفحات خالدة من تاريخ بطولي صنعها أسلافهم بدمائهم من أجل الحرية. بادرت بإرسال نسخة من هذا الكتاب إلى شيخنا الجليل عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري - رحمه الله - لأنني أعرف محبته للتاريخ، ومحبته لقصص البطولات التي صنعها إنسان هذه الأرض. فلقد كتب كتاباً عظيماً عن أبرز أبطال التاريخ الحديث، وصانع أكبر وحدة عرفتها الأمة العربية في تاريخها الحديث والمعاصر الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه -فجاءني منه هذا الجواب الذي أقدمه للقارئ الكريم بكامل نصه لكي يطلع على وطنية هذا الشيخ الجليل، ومحبته لوطنه، وإخلاصه له إلى آخر يوم من حياته - رحمه الله رحمة الأبرار -.
نص الرسالة
التاريخ 14-6-1414هـ
حضرة الأخ العزيز الدكتور محمد بن عبدالله آل زلفة حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
عزيزي:
ما أكثر ما نجهله في هذه الحياة!! وما أكثر ما غيّبته عنا الجهالة!! ولا أدري، وهذا الإحساس كثيراً ما يلازمني، كيف لي أو لغيري أن ينفي عن نفسه هذا الإحساس المضني؟ أتساءل وهديتك بيدي أقرأها قيماً ومثلاً عليا في أولئك الرجال من أبناء عسير -غفر الله لهم-. أقرأها في سفح الجبل أو قمته، في الوادي أو في القرية أو المدينة، أقرأها في أعماق الإنسان المسلم روحاً لا تقبل بالهزيمة ولا تتراجع عن طغيان الطاغين.معذرة، عزيزي، ما كنتُ أعرف هذا الذي عرّفتني به في ترجمتك لكتاب (رحلة في بلاد العرب) (الحملة المصرية على عسير) (1249هـ-1834م) عن عسير ورجال عسير. سعادة ملكت عليّ نفسي وأحاطتني بالسكينة والفرح برسوخ عقيدة التوحيد مَنْ حملتها في الأيام الأول بلدة الدرعية إلى أهلنا في عسير فاحتضنوها في قلوبهم كما تحتضن الأم وحيدها على صدرها.
رأيتُ الدرعية قد وضعت السلاح أيام الهزيمة، لكنها في (عسير) البطلة لم تستسلم للهزيمة وإن كان العالم ضدها. بماذا أوحى إليّ هذا الكتاب؟ أوحى بأشياء كثيرة وكبيرة قد لا أجد الوقت مناسباً أو فسيحاً أن أقول ما هي، إلا حالة واحدة شعرت أنها تقول لي: ولكل أعداء وحدة البيت الواحد: إن «عسير» عسيرٌ على كل من يحاول أن يلوي يدها عن مصافحة دعوة الدرعية. إن جبال عسير الشامخة ذروة لمجدنا ولعزنا ولوحدة قلوبنا، هكذا خرجتُ به مما قرأته، وما لم أقرأه حتى الآن، سأعطيك رأيي فيه.
أخي:
لي سؤال واحد: هل هذه الترجمة متواجدة في مكتبات عسير؟ يا ليتها تدخل كل بيت في مملكتنا العزيزة. لقد أحسنت اختيارك لترجمة هذا الكتاب. وما كان مفقوداً من هذا الكتاب أملي أن تجده وتسعى إلى تحصيله. فبلادنا اليوم أحوج ما تكون إلى تراثها وذخائر آبائها وأجدادها. هل تودّ عزيزي أن أثني عليك؟ أم قد أثنيتَ أنتَ على نفسك بتوجهاتك إلى التاريخ؟ أظنك تكتفي بطموحك الشاب إلى أن توسع الخطى في طلب المعرفة، وأن شيخاً كبيراً مثلي لم تيسر له ظروفه وأيامه البعيدة ما يسرته لك ولأمثالك، عليه أن لا يخرج من خيمته ولا يتجاوز تجربته مع الحياة، فالجامعات لكم والعصر لكم، والذكريات البعيدة مع الجمل ومع الصحراء ومع الغدير ومع مسامرة النجوم ومساءلتها لنا نحن آباءكم.
ابني العزيز:
ما أكثر ما أوقفني أبو الطيب على كثيب من رمال الدهناء وقال لي: سائل النجوم عني هل تشهد لي أني وقفتُ أمامها حائراً متسائلاً قائلاً:
ما بال هذي النجوم حائرة
كأنها العُمْيُ ما لها قائد؟
عزيزي:
ألا نرى في هذه الحيرة عند أبي الطيب تساؤلات عن حيرتها في حيرته؟ من يا ترى يكون هذا القائد الذي هجس له أبو الطيب أو تمناه؟ ألا ترى أنه العقل في الإنسان؟ لا أستبعد ذلك ولا أفترق والأمل في (العقل العربي) أن يدخل الجامعة ويخرج منها لا ليتسكع على التراب ولكن ليرحل إلى الفضاء منافساً. دعني، ابني العزيز، أضع أمنياتي، فالشيخوخة لم يبق معها غير أحلام اليقظة والأماني. لا أدري، فقد سمحتُ لنفسي أن أضايقك بهذه الرسالة لأني أحببت (عسير) فجئتَ تعمق هذا الحب وتريني سلامة الجسد الواحد من آفات العصر وتقطيعه الأعضاء عضواً عضواً في الإنسان، بحيث لا رِجْلٌ تساعد رِجْلاً على السير، ولا يد تساعد أختها، ولا عين ترى البعيد. هذا عصر لئيم وإن بنى قواعده في الفضاء وسماها حرب النجوم.. كهف من كهوف وطني في جبل من جبال (عسير) يساوي عندي مراكب الفضاء وناطحات السحاب، لنعمق الوعي فتتعمق فينا المحبة والسكينة!!.
وختاماً لك تحياتي وتمنياتي الطيبة..،،
أخوكم / عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري