القراءة في سير المتقدمين، والتزوّد من معين فكرهم الصافي، يمنح الإنسان بعداً ثقافياً ومعرفياً هائلاً، خصوصاً ما يتعلق بالحكم والآراء المتعلقة بالحياة وما يعتري أهلها من تقلبات فكرية واجتماعية، تتسبب في تخلخل المجتمع وتفككه، بل وربما تناحره.

ولعل مقدمة ابن خلدون أكبر دليل على أن ما يكتب بالأمس قد يكون واقعاً معاشاً اليوم، فما ذكره ابن خلدون في مقدمته يتطابق في أحايين كثيرة مع أحوال ناس هذا الزمان.

ومن العلماء الذين يشدني أسلوبهم وربطهم العجيب، بل ووعظهم أيضاً الإمام ابن الجوزي صاحب المصنفات التي تجاوزت الألف، كما قال ذلك ابن تيمية - رحمهم الله جميعاً -.

للإمام ابن الجوزي أقوال كثيرة تتعلق بحياة الناس المعيشية والفكرية والاجتماعية، وما يحصل من تقلب وتغيّر في الآراء مما يكون سبباً في تحولات مجتمعية غاية في الغرابة.

ومن أقواله التي أراها في واقعنا اليوم قوله: تأملت في الدخل الذي دخل في ديننا، في العلم والعمل فرأيته في طريقين:

فأما أصل الدخل في العلم والاعتقاد فمن الفلسفة، وهو أن خلقاً من العلماء في ديننا لم يقنعوا بما قنع به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الانعكاف على الكتاب والسنة، فأوغلوا في النظر في مذاهب أهل الفلسفة، وخاضوا في الكلام الذي حملهم على مذاهب ردية أفسدوا بها العقائد.

وأما أصل الدخل في باب العمل فمن الرهبانية، فإن خلقاً من المتزهدين أخذوا عن الرهبان طريق التقشف، ولم ينظروا في سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسمعوا ذم الدنيا وما فهموا المقصود، فاجتمع لهم الإعراض عن علم شرعنا مع سوء الفهم للمقصود، فحدثت منهم بدع خبيثة، فأول ما ابتدأ به إبليس أنه أمرهم بالإعراض عن العلم، فدفنوا كتبهم وغسلوها، وألزمهم زاوية التعبد فيما زعم..) ا.هـ.

تأملت هذا القول له - رحمه الله - فوجدته ينطبق على كثير من متعلمي ومتعالمي هذا الزمن، وإن كان بأشكال قد تكون مختلفة، فكم من طالب علم شريعي حاد عن الطريق وجاء بالعجائب نتيجة افتتانه لما لدى الآخرين تارة وبما قرأه للفلاسفة تارة أخرى، أتذكر في هذا المقام حديثاً دار بيني وبين أحد الأدباء الكبار حول أحد طلاب العلم الشرعي وما حدث له من تحول مذموم، فقال إنني نبهته على الخطر القادم عليه خلال زيارة لي لمكتبته الخاصة فوجدته مهتماً بشكل لافت بكتب الفلاسفة فحذرته من مغبة ذلك، فقال إنني محصن بالعلم الشرعي وما لبث فترة من الزمن إلا وقد صار من أكبر المروجين لهذا الأفكار البالية..! وهذا يثبت أن بقاء الحال كما يقال من المحال، ولكن البعض ينتقل من أفضل إلى أفضل ومنهم من ينتقل من أفضل إلى أسوأ، وهذا ما حصل لعدد غير يسير من العلماء والأدباء على مر العصور.

وتأملت قوله في الدخل في العمل فوجدته متطابقاً تماماً مع حال بعض من حادوا عن الطريق القويم، وهم للأسف يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وهذا هو الخسران المبين، مثل هؤلاء قد يستغل الإنسان عمله أمام أعمالهم ولكنهم في الحقيقة أخطأوا الصواب فتاهوا في دهاليز التقشف والتنطع فساقهم إلى سوء المصير، والرسول صلى الله عليه وسلم هو القائل عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وهو القائل إياكم ومحدثات الأمور، وهو الذي أنكر على من قال أقوم فلا أنام، والقائل لا أتزوج النساء، والقائل أصوم فلا أفطر.

مثل هؤلاء يتربى التطرف الفكري في محاضنهم شعروا أو لم يشعروا، لأن كل عمل يخالف الهدي النبوي الصحيح يسوق صاحبه إلى مهاوي الردى والإفلاس والمصير المؤلم.

حالتان أشار إليهما ابن الجوزي لحالتين من الناس، كان مقصدهما ابتداء محموداً فتحول في النهاية إلى مذموم، بل إلى خطأ جسيم.

أقف مع أقوال سلف الأمة من علماء شريعة ومفكرين، بل وأدباء فأجدهم يتحدثون عن أحوال يخشونها رأيتها في هذا الزمن بأم عيني!

السؤال المرير الذي يفرض نفسه هنا هل قراءتنا تمنحنا المزيد من الوعي تجاه واقعنا؟ مرارة السؤال في مرارة الإجابة بأننا نقرأ ولا نعي ما نقرأ وإذا وعينا فلا نعتبر! شواهد هذه الإجابة أن الكثير من الأحداث المعاصرة فيها من العبر والعظات ما يغني عن الدراسات والأبحاث، ومع ذلك تمر علينا مرور الكرام، وكأن لسان حالنا يقول: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا}، هذا بالطبع قمة الإيمان ولكن ليس هذا محله، فالقرآن جاء بالكثير من النذر، وقال سبحانه في أكثر من موضع (أفلا يتدبرون.. أفلا يتذكرون..) في إشارة واضحة إلى أهمية أخذ العبرة والعظة.

والله المستعان.