ما هو الخطأ التاريخي المشترك بين الأنظمة التي فقدت شرعيتها وسقطت وتلك الأنظمة التي تنزل شعوبها - وبخاصة شريحة الشباب منها - إلى الشوارع مطالبة بالإصلاح ومحاربة الفساد؟ الخطأ المشترك هو عدم التصديق بأن الأجيال الجديدة تختلف عن القديمة، وأن التوعد بالعقاب والتنكيل لتغطية المماطلة والتسويف طمعاً في كسب الوقت لم يعد ينفع؛ لأن الأزمنة والعقليات كلها تغيرت. الأنظمة التي سقطت (تونس ومصر)، والتي مآلها إلى السقوط (ليبيا، اليمن، سوريا)، كان يجمعها التوهم نفسه المستمد من الماضي المتبلد بأن ما حدث ويحدث غير قابل للتصديق ومجرد سحابة صيف ما تلبث أن تنقشع.
في تونس حاول النظام القديم شراء الوقت بعملة الجمع بين الوعد والوعيد، الوعد بالقضاء على البطالة والظلم ونهب الثروات، والوعيد بإنزال أقصى العقوبات بمن كان يسميهم عناصر مخربة ومدسوسة وعملاء للخارج وإرهابيين للقاعدة، إلى آخر ما في جعبة الحاوي من حِيَل وثعابين أكل الدهر عليها وشرب. كان النظام يُسوِّف ويكذب على الناس، والناس تعرف أنه يكذب على نفسه وعليهم حسب جاري العادة، كما كانوا يعرفون أن الإصلاح لم يرد في حساباته بقدر ما كان يحاول شراء الوقت ريثما يتم استرداد الطاعة بالأساليب التأديبية القديمة وتسليط بعض الناس على بعض. كان بإمكان النظام القديم في تونس أن يستشير بعض العقول العاقلة والحكيمة التي تعرف نبض الشارع وضغط الظرف التاريخي؛ لكي يفهم أن الناس بإدراكها العميق لبؤس أحوالها وانسداد المستقبل أمام أجيالها الشابة لم يعد يخيفها الموت على أسفلت الشارع؛ لأنها تموت بالفعل يومياً بالمئات في مياه البحر الأبيض المتوسط هرباً من الفقر نحو المجهول، ولأنه قد طال انتظارها للإصلاح الموعود الذي تأخر كثيراً. كل ما كانت تتطلبه الشجاعة والحكمة في الأيام الأولى من الاحتجاجات هو إلقاء القبض على بعض الرؤوس المشهود لها بالفساد العلني الذي لا يحتاج إلى براهين وتحقيقات، وتشكيل حكومة جديدة من شخصيات مشهود لها بالنزاهة والوطنية، ثم الجلوس مع مَنْ يختاره الناس نيابة عنهم والاستماع إلى مطالبهم. لقد كان الأجدى والأقرب إلى الشريعة والعقل والفطرة السوية من التمادي في العناد والمكابرة إصلاح النظام من داخله، وأخذ الوطن نحو المستقبل الحقيقي وليس الوهمي الافتراضي، وتجنيب البلاد والعباد منذ البداية فتنة التخريب والفوضى وترك البلاد في الفراغ وبدون قيادات سياسية وقضائية واجتماعية.
ما حدث في مصر بعد تونس كان أكثر مراوغة وعناداً، وأكثر مهارة في التسويف وإطلاق الوعود بالتقسيط والمماطلة والدفع المؤجل مشروطاً بذهاب الجماهير إلى بيوتها أولاً، لكن في النهاية سقط النظام بدون أن يترك ركائز أمنية وقضائية وسياسية معتمدة، وما زال الناس في الشوارع حتى اليوم، والفتنة الطائفية تذر ما في قرونها من شرر وبارود.
في ليبيا واليمن وسوريا تسير الأمور على النهج الأعوج نفسه، وما زلنا نرى العمى السياسي نفسه في التعامل مع مطالب الناس وإحباطاتهم. الأمور في هذه الأقطار العربية الثلاثة آيلة حتماً لسقوط الأنظمة، لا شك في ذلك، لكن المخيف المحتمل هو أن فاتورة التخريب بالطائفية والمذهبية والطبقية التي سوف يدفعها الوطن سوف تكون أكثر فداحة من مثيلاتها في تونس ومصر. أسوأ ما يمكن أن يتوقعه إنسان مهما بلغ تشاؤمه هو أن توظف الأنظمة الحاكمة جيوشها الوطنية لسحق شعوبها. مهمة الجيوش الوطنية كما يتعشمها الناس هي حماية الأوطان ضد الأخطار من الخارج فإذا بها توجِّه دباباتها وطائراتها ورشاشاتها نحو الشعوب الصادحة بالتكبير والملوحة بالأعلام ولوحات القماش مطالبة بحقوقها في الأوطان بعد أن تأخر إصلاح الأمور كثيراً وسئمت الانتظار.
لا بد رغم كل شيء من التشبث بالأمل بأن يتم من داخل الأنظمة وبهدوء التبني والتنفيذ لجميع استحقاقات ومتطلبات الإصلاح في كل الأقطار العربية التي لم تنقطع فيها شعرة معاوية بين الناس والأنظمة؛ لأن الأزمنة تغيرت، والناس والعقليات كذلك، والقادمات من الأيام سوف تكون حبلى بمتغيرات كثيرة.
الرياض