ناسٍ تشيل البغض ما هم خفيين
القلب فيه الريب لو يضحك الناب
محدى الهبداني
والريب هنا بمعنى الحقد.. يقول إن كل شخص يعرف من يميل إليه ممن ينفر منه من غير حوار, فالعين تصوّر ما في القلب, وتظهر الباطن مهما حاول الكاره دفنه وطمره, وكم من حوار عدائي صامت جرى بين شخصين لم يشعر به جمع غفير حاضر! فالبغض كما يقول الهبداني ليس خفيا, وحقد القلب وإضمار الكره والعداوة والبغضاء لا تخفيها ابتسامات المجاملة ومتطلبات المواقف. إن مشاعر الكره تظهر للمكروه مهما خفيت على الناس, يراها بقلبه قبل أن تراها عينه, ولهذا قال بعده:
يا حليس لو ما شفت أنا شايف شين
أشوف ناس قوم بهدوم الأصحاب
و(شين) هنا بكسر الشين معناه (شيء) على لهجة شمال الجزيرة, والـ (قوم) باللهجة النجدية تعني الأعداء. يقول: رأيت ما لم تره, وهو أعداء بملابس الأصدقاء, يخفون عليك لكنهم لا يخفون علي.. ولا شك في أن العدو يعرف عدوه، حيث إن هذه المشاعر المغناطيسية اللئيمة لا تؤثر إلا في قلب من وُجّهت إليه. وهذا المعنى متداول قديم, وقد ورد كثيرا في الشعر العربي القديم, قال زهير:
الود لا يخفى وإن أخفيته
والبغض تبديه لك العينان
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
والعين تعرف من عيني محدثها
إن كان من حزبها أو من أعاديها
وقال حيص بيص:
العين تبدي الذي في نفس صاحبها
من المحبة أو بُغضٍ إذا كانا
وفي الشعر النبطي قال محمد العبدالله القاضي:
ترى بوجه اللي يودك دلاله
وبالضد ما تكره.. تراهن بالاغزال
نعم نحن نعرف أصدقاءنا المحبين وأعداءنا الكاشحين من نظرات عيونهم, وخلجاتها وإشاراتها الطبيعية التي يمليها القلب المشرق بالمحبة والبراءة, أو المظلم بالحقد والكره والعداوة. وقد ركز معظم الشعراء هنا على ترجمة العين للمشاعر لأنها الحاسة الأكثر والأدق تعبيرًا, وإذا استطاع المرء أن يُسيطر على حواسه, ويُجبرها على إخفاء إحساسه الحقيقي, فإنه لا يستطيع أن يُجبر العين, لأن العين أهم وسائل الاتصال مع الآخرين, ووسيلة الاتصال الحية تتأثر بما يصل إليها من المرسل سلبًا وإيجابًا.الهبداني في البيتين لم يذكر جارحة من الجوارح تشي له بما تكنه قلوب الأعداء في البيتين الأولين, بل ذكر أن إدراكه بحقيقة من يضمرون له الكره والعداوة يشعر به ويحسه إحساسًا, ثم عقّب بقوله:
يا حليس صاب القلب ما تنظر العيـن
شوف البغيض بنونهـا تقـل مشهـاب
وهذا يذكّرنا بقول المتنبي:
واحتمال الأذى ورؤية جانـ
ـيه غذاء تضوى به الأجسام!
أبو إياس - عبد العزيز القاضي