تيسرت وسائل الاتصال، وتعددت أنواعها، ورخص ثمنها، وسهل الحصول عليها.. وكان من المفروض أن تعين على:
صلة الأرحام.
الوفاء بين الأصحاب.
تفقد المحتاجين.
السؤال عن المرضى.
نشر العلم والخير بين الناس.. و.. و
فهل تحقق ذلك؟!
ومن التفاؤل أن نقول نعم، ويؤيد نعم ما نراه من صلة وبر ووفاء لدى عدد كبير من الناس رجالاً ونساء كباراً وصغاراً متعلمين وجهالاً.. ولكن ذلك العدد كبير وليس كثيراً!!
والمفاجأة غير السارة أن بعض الناس كان واصلا قبل امتلاك تلك الوسائل، وكان باراً قبل حصوله عليها وكم كان يتمنى بعضها.. فلما تحققت الأمنية تبدلت الحال، وصار الفتى غير الفتى.. فضعف تواصله وقل بره وغاب وفاؤه!
أما تجربتي فعميقة الأثر وآسرة للنظر وحاملة لأقوى العبر.
استصحبت حسن الظن استجابة لأمر الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتناسيت كل خلاف في وجهات النظر وكل اجتهاد أكل عليه الزمان وشرب.
وافترضت أن الأسماء التي تحملها ذاكرة جوالي أصدقاء وأقارب وأحباب.. وأقل ما يربطني ببعضهم المجاملة وتبادل المصالح.. وبناء على ذلك:
أرسلت تهنئة بالمولود، وتهنئة بالترقية وتهنئة بالنجاح.
وأرسلت تهنئة بالشفاء من عارض صحي.
وأرسلت سؤالاً من قضية علمية أو لغوية.
أرسلت رسالة تحمل طلب الرأي في مقال كتبته.
وطلبت من بعضهم إفادتي عن ما تم على معاملة في دائرته التي يعمل بها.
واتصلت بعدد كبير من الزملاء في العمل والجيران والعقاريين والعمال و.. و..
وكانت النتيجة من ذلك كله تجاوب من واحد من العشرين فقط وبقيت التسعة عشر لم أجد منهم أي رد برسالة جوال أو اتصال بهاتف ثابت أو جوال أو رد علي اتصالي: فما السبب؟!
ستقول لي: إن أحدهم مريض والثاني مسافر، والثالث نائم والرابع جواله في حالة استقبال فقط!!.. وإذا سلمت لك بذلك: فما بال الخمسة عشر الباقين؟! ولماذا لم يرد المريض إذا شفي، والمسافر إذا قدم والنائم إذا استيقظ و(المسكين) الذي جواله في حالة استقبال فقط يجيب إذا سدد ما عليه من مبالغ؟!
أظن أن هناك قاسماً مشتركاً بين التسعة عشر.. ذلك القاسم المشترك والرابط بين أولئك القوم: الأصحاب والزملاء والجيران والعمال و.. و.. هو: (جفاف المشاعر)، وتفسيره معاشر القراء: أن عدداً كبيراً من الناس أصبح الرابط (المقدس) عندهم هو العلاقة المادية: ماذا نستفيد من فلان، أما منصب فلان، ماذا وراءه من مصالح، كم كسبنا منه فيما سبق، ما مقدار وجاهته في المجتمع..
فالتاجر والمسؤول الكبير وصاحب العلاقات الواسعة سيرد على اتصاله وستجاب رسائله وتلبي طلباته ومن سواه فحسب الظروف والمزاج!!
جفاف المشاعر أضعف العلاقات وبتر الصلات، وأشاع الأنانية، وأصَّل تبادل المنافع، وقوى (الواسطة)، وأبعد الضعيف، وقرَّب القوي، ورفع المفضول، وخفض الفاضل.. كل ذلك وغيره جناه جفاف المشاعر وفوقه (وهو الأخطر) أصبح الحب والبغض سلعاً تباع بأزهد الأثمان، وألفاظاً تقال بلا معنى، وخيالاً بلا حقيقة!!
ولكن: هل تلين المشاعر بعد جفافها، وهل تحيا بعد موتها، وهل تصحو بعد هجعتها وتبلدها أسئلة لا أملك لها جواباً.
غير أني أشكر من أعماق قلبي: إخوة كراماً كانوا ولا زالوا نعم الإخوة؛ حيث أجدهم كلما بحثت عنهم ويجيبون اتصالي في كل وقت وما قصروا معي يوماً.. بتواضعهم صعدوا قمم الشرف والمعالي وبصدقهم رفعهم الله وأعزَّ مقامهم.
بعض أولئك الإخوة بمرتبة وزير وبعضهم برتبة أستاذ في الجامعة وبعضهم في أعلى الرتب العسكرية.. وبعضهم في درجات ومراتب ومستويات مادية وإدارية أقل من ذلك.
حفظهم الله وأعلى قدرهم وأجزل مثوبتهم ومتعهم متاع الصحالين وأعانني وإياهم على كل خير إنه سميع مجيب قريب.