يحاول البعض أن يصور المجتمع على أنه ساحة صراع كبرى بين دعاة الفضيله والأشرار، بينما أصل الخلاف يكمن في التفاصيل وكيف يخرج المجتمع من أزماته التي يأتي على رأسها بطالة الذكور والأناث، وما يُثار في خطب متلفزة مشحونة بالوعيد والتهديد هو حول قضايا تعتبر في حكم المنتهي، ولا يمكن إيقافها بخطاب ثقافي أو خطبة دينية، لذلك على رموز تلك التيارات أن يتوقفوا عن إدخال المجتمع في الجدل العقيم، فالتحدي الحالي ليس في سباق الغضب حول قضية عمل المرأه في مكان مختلط أم لا، ولكن في توجيه قوى الإصلاح لإنقاذ الأجيال القادمه من الذكور والأناث من خطر البطالة المزمن.
يطرح بعضهم الاختلاط على أنه الشر المحض والمتفق على تحريمه، بينما هم يدركون أن قدر لا مفر منه، وأن أغلب الحلول المطروحه ليست بذات جدوى، بل يستحيل إنجازها في الحياة الدنيا، ويدخل في ذلك المستشفيات والأسواق والمطارات وغيرها، وقد يظهر للمتابع أنهم يحاربون ضد فساد المرأه، بينما في واقع الأمر يدفعونها إلى ذلك من خلال حرمانها من العمل، وقد أثبتت الدراسات الاجتماعيه أن تنمية الوعي وارتفاع الدخل المادي للمرأة هو الفضيلة وأهم حصون حمايتها من الفساد، فالحاجة للمال في المجتمعات الطبقية قد تدفع ضعاف النفوس إلى استغلال حاجتهن للمال في إما في زواج أشبه بزواج المتعة أو غير ذلك من صور الرذيلة أو البطالة.
قد يسمح العائد المالي العالي من النفط في أن يحاول البعض فرض حلوله المكلفة جداً، معتقدين أن في مقدور الوطن دفع هذه التكلفة باهظة من أجل أن لا يحدث اختلاط في بيئة العمل، وفي نفس الوقت يحل مشكلة البطالة بين الإناث، وقد يدخل ذلك في المعجزات على وجه الأرض في ظل عصر الطفرة النفطيه في الوطن، بينما ذلك قد يعتبر في حكم المستحيل في الدول الإسلامية التي تتمتع بدخل مالي محدود، ولهم أن يدركوا حجم التكلفة العالية لتلك المشاريع بحسبة بسيطة لتلكفة جامعة نورة للإناث التي قد تعادل ميزانيات دول مجاورة.
تنطبق هذه الرؤية على الذكور والإناث، فالوعي والحصول على عمل ذي دخل مادي جيد يجعل من المرء أكثر استقلالًا وهدوءا، وكلما ازدادت مساحة الطبقة الوسطى يظهر الأمن الاجتماعي في أوضح صوره، وبالتالي يدخل المجتمع في طور السكينة، بدلاً من حالة التوتر والقلق التي قد تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه، وتظهر صور التوتر في تدافع عشرات الآلاف من المواطنين لشغل مئة وظيفة أو تزيد قليلاً، والتوتر مرشح للتصعيد ما لم يتم إحداث التغيير من خلال الحلول المؤلمة، ليصبح الوطن مقدماً على أي اعتبارات أخرى.
أزمتنا الحاليه أننا نهرب من مواجهة الحقيقة التي لا يمكن الهروب منها للأبد، فمن أهم أسباب بطالة الجيل الحالي هو أولوية المصالح المادية لكثير من المؤسسات والشركات، التي سيكلفها التوطين خسائر محدودة من معدلات الأرباح العالية، لكن العامل الأهم في العجز عن تخطي تلك الصعاب هو تداخل مصالح الرأسمال مع القرار أو النفوذ، وتلك وربي معضلة لا أجد لها حلا يلوح في الأفق، فالأمور متداخلة بصورة غير عادية، ويحتاج الأمر إلى قرار بطولي شجاع يفصل بين القرار والمصالح، ولن نفقد الأمل في إيجاد حل يلغي تدخل النفوذ في مصالح الوطن واستقراره.
ونحتاج قبل ذلك إلى تشريعات ورقابة تنفيذية تفرض الفصل بين المصلحة والقرار، وستظهر الحلول لأزمة البطالة ممكنة إذا تجاوزنا تلك العقبة، فالقرار المراقب وغير المنحاز سيجعل من مصلحة الوطن ومستقبله فوق الجميع، وستنتهي يوماً ما أزمة التضخم العمالي الوافد وسينعم أبناء وبنات الوطن بثراء وطنهم وأمنه الاجتماعي، ويمر الوطن في طور الانتخابات البلدية التي قد تكون بذرة في الطريق الصحيح، إذا تم إعطاؤها الصلاحيات للمشاركة في التخطيط البلدي والمدني، وعلى أن يتم تعميم فكرتها لمجالس المناطق، وأن يتم منح صلاحيات تنموية للمناطق، ليبدأ السباق الحضاري والعمراني والاقتصادي بين المناطق. خلاصة الأمر أن أولئك الذين يعملون على إرجاف المجتمع وتحويله إلى مناخ صراع فكري وأيدولوجي مسمم بدخان الفتن والقلاقل عليهم أن يتجاوزوا عجزهم المزمن، فقافلة الوعي تحركت، ولن تستجيب إلى ثقافة الصراخ، ولن تجدي محاولاتهم اليائسه في صرف النظر عن أولوية إنقاذ المجتمع من أخطار الركض الجماعي خلف فرص العمل النادرة.