الإنفاق الحكومي يأخذ أشكالا متعددة لتحقيق أغراض مختلفة في فترات مختلفة، ولكل حادثة حديث. ولكن بالجملة، فمهما اختلفت دواعي الإنفاق الحكومي وطرقة ووسائله وأزمنته، فإننا نستطيع القول بأن التخطيط للإنفاق الحكومي يتأثر بأيدلوجية الحكومة وخبراتها المتراكبة التي ستكون السبب الحقيقي وراء توجيه أسلوب الإنفاق الحكومي إما إلى جهة التخطيط المركزي (الاقتصاد الاشتراكي) وإما إلى جهة تخطيط الاقتصاد الحر (الاقتصاد الرأسمالي)، أو بين منزلة بين هاتين المنزلتين.
التخطيط المركزي يجعل الإنفاق الحكومي مباشرا (على المفتاح) ولذا تكون مخرجاته معدودة سلفا، وأما نتائجه فعادة ما تكون محبطة للآمال، لأن التخطيط المركزي لا يقدم حرية الاختيار فلا يفتح مجالا للإبداعية في تنويع الإنتاج وتحسينه وتطويره كما أنه يخلق ثقافة الاتكالية واللا مبالاة، وأضف فوق ذلك كله أنه يتطلب إدارة مركزية ضخمة. وأما الإنفاق الحكومي المعتمد على الاقتصاد الحر فهو إنفاق غير مباشر يحفز الرغبة ويقدح الشرارة الأولى ثم يدع المجتمع الاقتصادي حرا ليبتكر طرقا متنوعة ومختلفة لتحسين الاستفادة من الإنفاق الحكومي، فهو كرمي كرة ثلج صغيرة تنتهي إلى أضعاف مضاعفة.
مبادرات دعم الإسكان عندنا إما تخطيط مركزي صرف وإما قريب إليه. فمبادرة بناء 500 ألف وحدة سكنية هي من التخطيط المركزي الصرف لذا فعدد مخرجاته معروف لا يزيد و لا ينقص. وهناك شريحة من المجتمع بحاجة ماسة إلى هذا النوع من الدعم وهم الأولى والأحق في الدعم الحكومي. وأما مبادرة الصندوق العقاري فهي في منزلة أقرب إلى التخطيط المركزي من الاقتصاد الحر لأنها تعطي المستفيد الحرية في التنفيذ ولكن لا تسمح للمجتمع بالإبداعية لتضخيم الدعم، لذا فهو لا يتضاعف مما يجعله أقرب للتخطيط المركزي. وهناك شريحة من المجتمع هي أيضا بحاجة إلى هذه المبادرة وهم يأتون بالدرجة الثانية في الأحقية بالدعم بعد الشريحة السابقة.
بقي هنا أن نتساءل عن الدعم الحكومي للإسكان عن الدعم التمويلي باستخدام النماذج التمويلية التي تجعل من ريال الدعم عشرة ريالات حقيقة يمكن حسابها وتسجيلها على المستفيد مقدما، فضلا عن آثارها غير المباشرة في السوق الاقتصادية.
الدعم عن طريق النماذج التمويلية يُمكن الحكومة من تقديم عشرة ملايين ريال لشخص، بينما لا تدفع الحكومة إلا خمسمائة ألف ريال مثلا. وكذلك هي وسيلة عجيبة تستطيع أن تمتص ارتفاعات أسعار الفائدة، فكلما ارتفعت أسعار الفائدة كلما زاد دعم الحكومة من غير أن تتكلف شيئا. أضف إلى ذلك أنها لا تحتاج إلى إدارة فالمنظمات الخاصة التمويلية كالبنوك وغيرها هي من سيقوم بالعمل كله صناعة ولا تحتاج الحكومة إلا لوضع الأنظمة فقط.
هناك المئات من النماذج الممكنة لدعم الإسكان عن طريق التمويل الشخصي، وأكثر منها بكثير لتمويل المطورين على أن يجير المقاولين دعم التمويل للمواطنين بعد أن يكونوا قد استفادوا هم من هذا الدعم في تمويل مشاريعهم ، فتكون الفائدة مضاعفة، وهذه هي لمسات الجمال في التمويل وقوة فعاليته في مضاعفاته الدعمية.
إن مما سكت عنه أن لجوءنا إلى التخطيط المركزي في دعم الإسكان ناشئ عن ضعف ثقافة التمويل وفنونه في المجتمع سواء على المستويات المتخصصة أو ما دونها، فهي فنون مازالت ضحلة في عالمنا العربي فضلا عندنا في السعودية. وكون البعض «بنكر» حتى ولو لمائة عام أو «رئيس الخزانة في البنك» لعشرين عاما لا يعني أنه قادر على ابتكار النماذج التمويلية الإبداعية المتجددة المتغيرة بتغير المعطيات والتحديدات التي تناسب أوضاع السوق لدينا. فمعرفة فنيات التمويل لا تعني معرفة النماذج التمويلية الصالحة للسعودية، فالنماذج التمويلية كالمشتقات: بحر لا ساحل له يعتمد على الإبداعية الابتكارية. لذا فالنماذج التمويلية الكثيرة المتوافرة لابد من تسخيرها وقيافتها لغويا وثقافيا وجوهريا لتتناسب مع معطيات السوق السعودية. وهذا غير موجود بالكتب ولا يمكن نسخه من الأجانب لأنهم لا يستطيعون تصور واقعنا وثقافتنا الاقتصادية. فبغياب الكتاب وعجز الأجنبي المعتمد عليه عندنا في السوق التمويلية وعدم توفر الخبرة لعدم وجود هذا النوع من السوق، تجدنا دائما ما نميل إلى التخطيط المركزي وإلى استخدام النماذج التمويلية البدائية التي في حقيقتها تضيع مئات المليارات من الدعم الحكومي كانت من الممكن أن تُخلق، لو أحُسن استخدام النماذج التمويلية في الدعم الحكومي.
hamzaalsalem@gmail.com