في السابع من شهر ديسمبر الماضي (2010م).. أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية بصورة (صريحة) انسحابها من (المفاوضات) مباشرة أو غير مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.. وبصورة (مبطنة) عن انسحابها من (القضية الفلسطينية) برمتها، وهي على ثقة من أن إعلاناً.....
..... ضخماً كهذا وبكل ما يعنيه على مستوى مكانتها وعلاقاتها وتحالفاتها في المنطقة العربية.. سيحدث دوياً هائلاً، وسيخضع الرؤوس الساخنة، وسيأتي بالرؤوس الرافضة لـ «الحل» الأمريكي المتكتم عليه أمريكياً حتى الآن.. والذي لن يزيد في النهاية وبعد أن تتقطع الأنفاس، ويموت من يموت، ويضيع من الأراضي أضعاف ما ضاع منها.. عن (محافظة عربية) في الضفة الغربية، وأخرى في قطاع غزة.. في دولة إسرائيل الكبرى، وعليه فإن العرب الطيبين والفلسطينيين (الغلابة) في مقدمتهم.. سيزحفون آحاداً وجماعات إلى البيت الأبيض ليسألوا الرئيس أوباما: العفو والمغفرة.. وهم يسترحمونه «العدول» عن قراره (الظالم) هذا سواء بالانسحاب من (المفاوضات) أو القضية برمتها (!!) ولكن أوباما وإدارته.. فوجئا بما لم يكن في حسبانهم.. عندما أخذ «أبو مازن» - رئيس السلطة الفلسطينية - يعلن المرة تلو الأخرى، ومن واشنطن إلى لندن ومن لندن إلى باريس.. بأن لا عودة للمفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع إسرائيل إلا بإيقاف الاستيطان في كل الأراضي المحتلة وفي مقدمتها القدس الشرقية.. لأن «المفاوضات» و»الاستيطان» خطان متوازيان لا يلتقيان كما قال رئيس وفد المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات، ودون أن يذكر.. أو يتذكر إعلان الرئيس أوباما عن (انسحابه من المفاوضات).. فضلاً عن أن يسترضيه أو يرجوه العدول عن قراريه سواء بالانسحاب من المفاوضات أو القضية برمتها كما كان يأمل أو يتوقع الرئيس أوباما، وأنه سيذهب في المقابل إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة.. في سبتمبر القادم.. ليطلب منها التصويت على قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيه 1967م.. وفق مرجعيات الأمم المتحدة وقراري مجلس الأمن 242، 338، وليعارض القرار (الأكيد) صدوره من الجمعية العامة للأمم المتحدة - وقد صدر ما هو أخطر وأهم منه (الاعتراف بعنصرية.. الحركة الصهيونية) - كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.. ليفاجأ «أوباما» خلال هذا التجاذب.. بـ «مطب» سياسي من العيار الثقيل.. عندما أعلنت كل من «البرازيل» و»تركيا» و»تشيلي».. الاعتراف بالدولة الفلسطينية حتى قبيل طرح مشروعه على الجمعية العمومية في سبتمبر المقبل.
ولكن وقبل أن يقوم «أبو مازن» بهذه الخطوات الشجاعة في مواجهة قرار «أوباما» بالانسحاب من «المفاوضات» أو «القضية» برمتها.. كانت هناك ردة فعل عربية لـ «قرار أوباما».. ربما لم يسمع بها «الرئيس»، وربما لم يشأ أن يعلم بها.. قادته مجموعة من شرفاء السياسيين والكتاب والمحللين العرب.. وهي ترحب - سعيدة - بقرار أوباما بالانسحاب من المفاوضات ومن «القضية» برمتها.. وكما فعل المناضل الفلسطيني الأسير (مروان البرغوثي) من زنزانته الإسرائيلية الظالمة، بل وترى فيه أجل وأعظم خدمة لـ»القضية».. من خطابه الرنان في جامعة القاهرة، الذي نبذ فيه «الاحتلال» الإسرائيلي، وأقر فيه بحق الفلسطينيين في أن يعيشوا بحرية وكرامة في دولتهم.. كبقية شعوب الأرض، ثم ظهر فيما بعد.. بأنه ليس بأكثر من كلمات جميلة طيبة لا غير، يمتص بها حماسة المتطلعين العرب - منهم على وجه الخصوص - لما يسمى بالإنجازات التاريخية الكبرى المتوقعة من أول رئيس أسود يترأس المكتب البيضاوي طوال تاريخه.. لأن انسحابه إن صدق إنما يعني خروج الولايات المتحدة من دورها الفعلي كـ»راع للاحتلال»، وهو ما يفتح الأبواب.. ويرفع الحرج عن أي مسعى يقوم به الفلسطينيون والعرب ودول عدم الانحياز من أجل تحقيق السلام العادل وإقامة الدولة الفلسطينية حتى ولو استعانوا بتلك الدول «البغيضة» التي لا تطيق الولايات المتحدة الأمريكية ذكرها.. فضلاً عن أن تراها تحل محلها، وتنتزع منها مقود السلام.. وتقود المنطقة إليه.
لقد كانت «ردة الفعل» هذه من الجانب العربي.. قارئة واعية - بأكثر منها شجاعة أو مغامرة - لـ «ثقافة الهجرة» التي ماتزال تشكل مكوناً رئيسياً من مكونات الفكر السياسي الأمريكي.. رغم مرور ما يزيد عن خمسمائة عام على نجاح مهاجري أوروبا الملتبس في إقامة ما عرف فيما بعد بـ «الولايات المتحدة الأمريكية»، على أراضي (الغير) من سكان أمريكا الشمالية الأصلييين.. فيمن سموا بـ «الهنود الحمر»، وأصبحوا موضع تندر العالم وضحكاته، وأن ما قامت عليه الولايات المتحدة في الماضي.. يمكن أن تقوم عليه (إسرائيل) في الحاضر عندما تصبح (فلسطين) كلها.. هي دولة يهود العالم أجمع، مع إعطاء مساحات مناسبة لسكانها الأصليين من العرب، وكانت «ردة الفعل» من جانبها الفلسطيني أعظم.. وهي تقدم من وراء زنازين الاحتلال الإسرائيلي الظالمة.. (نيلسون مانديلا) آخر، فلسطيني هذه المرة: هو المناضل الفلسطيني (مروان البرغوثي).. وهو يرحب بـ «الانسحاب» الأمريكي من «القضية»، ويرى فيه نهاية سعيدة لـ «الاحتكار الأمريكي لملف القضية»، وهو يقدم (البديل) في ثلاث نقاط: المصالحة وبناء موقف عربي صلب وتصعيد المقاومة الشعبية..!!
لو أن الرئيس أوباما.. علم بما سيحدث في السابع عشر من ديسمبر، وأن شاباً تونسياً اسمه (محمد بوعزيزة) سيشعل النار في نفسه، وأنه سيموت في الرابع من يناير وسيدفن في الخامس منه.. لتشتعل (تونس) كلها في ثورة.. لم تبق معها شيئاً من صورتها السابقة الداعمة لكل السياسات الأمريكية وتوجهاتها في المنطقة، وأن (مصر) المستقرة.. ستلحق بها في الخامس والعشرين من يناير، وأنه سوف لا يبقى من صورتها القديمة شيء في مساء الحادي عشر من فبراير.. لما تورط حتماً في تهديده الفارغ بـ»الانسحاب» من «المفاوضات» أو القضية الفلسطينية برمتها، فقد كان الرئيس أوباما يعول على بقاء صورة العالم العربي على ما كانت عليه في ذلك اليوم: تونس.. بـ «تأييدها» ومباركاتها لتوجهات حليفها الأمريكي الغربي الأكبر، ومصر المستقرة المطمئنة والمؤمنة بـ «العملية السلمية».. وبأن إعادة فتح «معبر رفح» البري بينها وبين غزة (حماس) إنما يشكل تهديداً للأمن القومي المصري!! وأن هذا الأمن يشكل خطاً أحمر لقيادتها!! وأن المصالحة الفلسطينية/ الفلسطينية التي يديرها الوزير أو الفريق عمر سليمان رئيس الاستخبارات.. بتلك السلحفائية المطلوبة أمريكياً، والتي استنفدت وقتها وجهدها.. لن تتم إلا برضا وقناعة «تل أبيب»، وهو ما يفسر تلك الزيارات المشبوهة التي كان يقوم بها الفريق سليمان.. بين كل جولة وأخرى من جولات المصالحة. لقد كانت تلك هي صورة العالم العربي المتاخمة لمنطقة الصراع، والتي أخذ الرئيس أوباما فيها قراره بـ «الانسحاب» من المفاوضات ومن القضية برمتها.. لكن العالم العربي وفي تلك الأجزاء المتاخمة لبؤرة الصراع فيه.. كان يستعد للتغير مائة وثمانين درجة مع غروب شمس الحادي عشر من فبراير، ليبدأ عالم جديد.. ويشرق أفق جديد على حياة كل من تونس ومصر، وعلى القضية الفلسطينية تحديداً.. مع قدوم وزارة الدكتور عصام شرف، ووزير خارجيته الخبير والعريق في ديبلوماسيته: الدكتور نبيل العربي.. ليتم فتح معبر رفح المصري الفلسطيني أو الفلسطيني المصري بين عشية وضحاها، وتنتهي يوم الأربعاء - ما قبل الماضي - وبرعاية القاهرة القطيعة بين منظمتي (فتح) و(حماس).. حيث تمت المصالحة التاريخية بين الطرفين الفاعلين على ساحة العمل السياسي الفلسطيني، وجرى التوقيع على وثيقتها بحضور الرئيس الفلسطيني (محمود عباس) وخالد المشعل المتحدث السياسي الرسمي لحماس وممثلي الثلاثة عشر فصيلاً فلسطينياً،حضور كل من روسيا والصين وتركيا ووزراء خارجية عدد من الدول الأوروبية إلى جانب أمناء الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي.. بل والأمم المتحدة، لتتوقف في الذاكرة العربية سلحفاة الفريق عمر سليمان.. عن سيرها البطيء والمميت.. وإلى الأبد.
لقد كان «البديل» للانسحاب الأمريكي من المفاوضات والقضية برمتها الذي قدمه المناضل مروان البرغوثي - عضو المجلس التشريعي الفلسطيني ومركزية فتح - ليلة الاحتفال برأس السنة الميلادية الجديدة (2011م) من زنزانته وقد أكمل عامه التاسع فيها.. كما لو أنه (المستحيل) بعينه في تلك الليلة، ولكن الشهور الأولى من هذا العام، والتي حملت معها ربيعاً سياسياً حقيقياً لكل من تونس ومصر.. حولت المستحيل فيها إلى حقائق على الأرض، فـ «المعبر».. فُتح، والمصالحة الفلسطينية/ الفلسطينية.. تمت، والانتخابات الفلسطينية التشريعية والرئاسية جرى التوافق على إقامتها في سبتمبر القادم.. متزامنة مع التقدم للجمعية العامة للأمم المتحدة بمشروع لـ»التصويت» على إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيه من عام 1967م بموجب قراري مجلس الأمن 242، 338، اللذان ترفضهما إسرائيل فعلياً، وتقبل بهما إعلامياً.. في ظل دعم أمريكي غير محدود لـ»رفضها» وهو ما يعني.. أنه لم يبق من «البديل» الذي طرحه البرغوثي.. غير (تصعيد المقاومة الشعبية)، وهو ما يستلزم وجود قيادة نضالية أخرى في رئاسة السلطة الفلسطينية القادمة بعد ترجل الرئيس محمود عباس.. وقد أعلن مراراً وتكراراً بأنه لن يرشح نفسه للرئاسة مجدداً في انتخابات سبتمبر المقبل، وهو ما يفتح الطريق أمام سجين الحرية المناضل مروان البرغوثي.. أو مانديلا الفلسطيني، الذي تحتاجه القضية.. وتحتاج شبابه ونضاليته، كما تحتاج وبذات القدر.. إلى رجال من حوله، يؤمنون بأن التضحية والترفع.. هما أعلى أثمان الحرية وأغلاها.
ربما ساعتها نستطيع أن نقول للشاعر الفلسطيني المبدع (أحمد مطر) وسخرياته بنفسه وبنا عند استقباله الرئيس أوباما.. بلهفة الغرقى والمأزومين في كل شيء والمحتاجين لـ «كل شيء».. حتى قال نيابة عنا: (أوباما.. فُصِّل للنملة بيجاما)..!! بأننا لم نعد نحتاج إلى من يفصل لنا ثوباً.. أو «بيجاما»!!