أينما تولَّ وجهك بمدينة الريــــاض شرقــاً منها أو غرباً أو شــمالاً أو جنوباً، تعجبُ عجباً يبلغ بك حدَّ الغثيان، ممَّا تراه من أرتال السيارات تعبر عن يمينك وشمالــــك وأمامــــك وخلفك من مختلف الأحجام والأعمار، والبعضُ من قادة المركبات، ثمينِها ورخيصِها سواء، يُملي له الظنُّ غير السويّ أنه في سباق مفتوح مع نفسه، فيتجَاوزك بسرعة مذهلة تحرك لسانَك بعبارة (ألطف يا رب)، غير مبالٍ بك أو بالآخرين أو بالحارس الأمين (ساهر) أيَّان وُجد، وكأنَّ الدربَ مخصصٌ له وحده لا سواه، فإذا أوقفتكما أشارةُ مرور أو زحام المركبات، ونظرتَ إليه عن بعدٍ نظرةَ عتاب فحسب، دون إشارة من يدك أو حركة من لسانك، نظر إليك نظرةً مستطيرةً مشحونةً بالازدراء والاستنكار!
***
- وقد تُزيِّن له نفسُه، في غياب الرادع الأخلاقي، مغادرةَ سيارته باتجاهك (ليلقّنك) بيده أو بلسانه درساً قاسياً يقمعُ به احتجاجَك الصامت، ولا تدري لحْظتئذٍ أتَبتسمُ له (ترطيباً) لأجوائِه الساخنة أم تَتَجاهلُه أم (تزمجر) في وجهه، أم (تنازلُه) منازلةً جسديةً (تحلم) أن تكون لك من خلالها الغلبةُ عليه بـ(الضربة القاضية)! فإنْ قُدّر لك أن ترى جسَده وتزنَ قدراتِه قبل أن يصل إليك، وتَرآى لك وقتئذٍ أنْ لا حَيْل لك على منازلته ولا حِيلة، فقد تلتزمُ بأهداب (الحُلم) بدلاً من (المنازلة) لغياب (التكافؤ) في القُوى بينكما، وقد تلجأُ أخيراً إلى (حيلة المضطر) التماساً للسلامة، وحقْناً للشر، فتحرك عربتَك بأقصى سرعة ممكنة هرَباً من أذاه المحتمل، وأنت (تحوقل) و(تتعوذ) من شره وأذاه!
***
- هذا الموقف (الكراكاتيري) المضحك المحزن معاً ليس غريباً ولا نادراً في مدينةٍ متْخمةٍ بالبَشَر والعربات كمدينتي الرياض وجدة، وما أكثر ما تعرّضَ كاتبُ هذه السطور لمواقفَ مشابهة، حين أُنكرُ (منكراً مرورياً)، فأتَعاملُ معه بلساني لا بيدي ناصحاً، دفْعاً لأذى صاحبه وكسباً للثواب، وتكون نتيجةُ (لقافتي) غيرَ ما توقَّعتُ، خاصة حين يحاولُ فاعلُ المنكر الاحتكامَ إلى لغةِ العضلات، لا عضلة اللسان فحسب!
***
- هناك أكثر من سبَب لحَالاتِ الاحتقانِ التي تفرزُ مواقفَ مشابهةًَ لما مرّ ذكرُه في كثير من الطرق الرئيسية وحتى الفرعية منها في مدينة كالرياض، من أهم هذه الأسباب ما يلي:
1- الكثافةُ المروِّعةُ في عدد المركبات من كلّ الأحجام التي تجوبُ الطرقاتِ ليس خلال فترات الذروة المرورية (وما أكثرها في بعض الشوارع) بل وخارجها، أحدُ أسباب هذه الكثافة إصرارُ كلَّ منّا على (الانفراد) بسيارة، لا يشاركُه فيها أحدٌ، حتَّى ولو كانت تَتَّسِعُ لثمانية ركاب وربما أكثر، ومن ثم ليسَ غَريباً أن تنطبقَ هذه الحالةُ على تِسْعٍ من كل عشْر سيارات تمرّ عن يمينِك أو عن شمالِك، يضافُ إلى ذلك انتفاءُ الالتزامِ بقاعدة (العمر الافتراضي) للسيارة في أذهان الكثيرين، ومن هنا تَتسلَّلُ العمالةُ الوافدُة، باقتناءِ سياراتٍ لا تَتوفَّر فيها لوازمُ السلامة، بعد أن عفَا عليها الزمنُ وعافَها!
***
2- وهناك سببٌ آخر لهذه الكثافة المرورية المروعة وهو السباق اللاَّهثُ بين وكالاتِ السيارات لتَفْريغِ مخَازنِها مِمَّا استوردته حديثاً، مستخدمةً بعضَ الحيلِ والإغراءاتِ باسم الحوافز لامتلاكِ أيِّ سيارة!
***
3- وهناك شبهْ أجماعٍ على أنَّ غيابَ قطاع النقل الجماعي في المدن على نحو يوفر الأمنَ والثقةَ والراحةَ لمرتاديه يُشكَِّل أحدَ أهم أسباب تَرهُّل شوارعنا بالمركبات، من كل الأصناف والأحجام و(الأعمار)، سياراتُ الأجرة لا تَفي وحدُها بالغرض، وهناك شرائحُ من الركّاب لا يملكُ أصحابُها القدرةَ على تكلفتها، كالعمالة الوافدة ومن في حكمها!
***
4- يأتي قبل ذلك وبعده عنصر (الردع) الحاضر الغائب، فالثقافة وحدها لا تفي دائماً بالغرض!
***
- هنا، يسأَلُ سائلٌ: ما الحلّ؟ وأقول: المشكلةُ التي أتحدَّثُ عنها أعقدُ وأبلغُ عُمْقاً مما يتَصوَّر البعضُ، وأرى أنَّ جزْءاً من الحلَّ لهذه المعضلة هو البدْءُ في تشخيصها وتحليلها تحلِيلاً علمِياً وميْدانياً، والتفكُّر في إيجاد (حزمة) من الحلول العملية، تبدأُ بالسيارة نفسِها ومَنْ يقودُها، مرُوراً بتوفيرِ وسائلَ بديلةٍ للانفرادِ بسيارةٍ لكلَّ عابر سبيل، وانتهاءً بإعادة النظر في تصميم بعض الطّرقِ هندسياً ومرُورياً، إضافةً إلى تشْديدِ الحزم في ردْع المخالفِين لقواعدِ المرور وآدابهِ وأوامرِه ونواهِيه، دون استثناء!