يرى عالم الأنثربولوجيا (عربياً الأنسنة) «جيمس كليفورد» أن بعض الحقائق التي تصدقها المجتمعات وتنتشر بينهم على أنها مسلمات، وحقائق موضوعية هي ليست كذلك، وإنما تم خلقها بفعل «أكاذيب كبيرة فعالة» تأخذ أحقاب زمنية قبل
أن يكتشف زيفها. والكذب المؤثر يؤتي أكله حيث يقبل الناس فعلاً على المبالغات ويتقبلونها كأمور معتادة وحقائق ثابتة. كتب كليفورد هذا الكلام في عام 1986م في عز أتون الحرب السوفيتية الأمريكية في أفغانستان التي كان المسلمون طرفاً فاعلاً فيها، والتي صدق البعض منا آنذاك أنها جهاد مقدس ضد الإلحاد بمحالفة أهل الكتاب.
انتهت الحرب بدحر الإلحاد وقيام دولة الخلافة الطالبانية في أفغانستان فصدق البعض أن تطهير العالم برمته من غير المسلمين قاب قوسين أو أدنى، وأن الانتصار الأفغاني ليس إلا بروفة بسيطة على انتصار فسطاط الإسلام على فسطاط الكفر للوصول لعالم يدفع فيه جميع الكفار الجزية للمسلمين. أما الطرف الآخر الذي يمسك بمفاتيح القوة، فكان يبحث عن ذرائع قوية لاستثمار هذا الانتصار، والسيطرة على العالم بعد غياب غريمه القوي وتفكك أوصاله، فانقسم عالم الصدام العالمي لقطبين متقابلين أطلق عليهما «بينجامين باربر» رمزياً: عالم الجهاد، وعالم ماكدونالد. عالم السيطرة الدينية، وعالم السيطرة الاقتصادية.
في هذين العالمين، وكضرورة لعولمة الصراع الإيديولوجي، ظهرت الحاجة لركيزة رمزية (رمز) تنسج حوله الخطابات الإيديولوجية التي تمكّن من سرديات الأكاذيب الكبرى الفعالة كما عبر عنها «كليفورد». ومن المصادفات الغريبة، أو فلنقل، الصدف المقصودة، التقاء رمزية المعسكرين في شخصية فرد واحد شاءت الأقدار أن يكون شخص يدعى «أسامة بن لادن «. فلابن لادن خلفية سردية خارجة عن المألوف وخارقة للعادة تجعله بطلاً مفضلاً لجانبي السرد الملحمي، شخصية بطل رواية سردية مستقبلية. فهو من أسرة منعّمة معروفة لديها كل ما يتمناه بشر لسعادته، فترك ذلك وذهب للشظف والجهاد، وهو كاريزمي وله منظر غير مألوف دائما، شاب منعم مرهف في جلباب درويش مستضعف.
وقد أضفت هيئته بطل السرد الجديدة بملابس الأفغان التقليدية تلف قوامه الطويل، تتوجها عمامة تتوج وجه خالٍ تماماً من التعبير والانفعال لمسة رومانسية إضافية أخرجته من عالم المكان والزمان إلى شخصية أقرب للخيال منها للواقع. صورة تتسع لأي خيال يحاط بها تركض وراءها أغلفة الجرائد والمجلات وتزداد قوة على شاشات الفضائيات. فهناك من تخيله صورة لخلفاء السلف الصالح، وتجسيد صادق للصلاح والجهاد، وطرف آخر جسده على أنه شخصية معادية لكل ما هو حديث وديمقراطي تحدوه الرغبة لتحطيم كل ما هو جميل، شخصية تقتل كل مظاهر الحضارة. أي أن ابن لادن الجديد هو من يحارب ابن لادن القديم. ومن هنا كانت بداية السرد الأسطوري لأسامة المجاهد وأسامة الإرهابي. صورتان مختلفتان تتعايشان في شخصية أسطورية واحدة. لكن هذه الصورة كانت تستخدم بشكل رمزي مكثف لتشويه أمة بكاملها وإخضاعها بالكامل، وتحويلها إلى متهم مذنب بدون جرم ولا براءة أيضاً.
واتخذ الصراع المعولم شكل شامل صَّوَر فيه كل طرف الطرف الآخر على أنه معسكر الشر الذي يجب أن يقهر بأية ثمن، وقد اكتوت بنار هذا الصراع المحموم مئات ملايين الأطياف البريئة المحايدة. لكن واقع الصراع كان أشبه بواقع سريالي لأنه كان بين معسكر ضعيف مفرق، معسكر شكك الكثير من المتابعين بأن له وجود إعلامي مقنن فقط، أمام معسكر يمتلك جميع سبل القوة العالمية الناعمة منها والخشنة. فعالم المكدونالد، عالم المال، وعالم الإعلام والدعاية، وعالم القوة العسكرية يحتاج لعدو يقارعه قوة، وفتكاً، وسيطرة ليأخذ الصراع مداه العالمي، ومبرره الأخلاقي. فأسهم هذا المعسكر ذاته في جهود تضخيم عدوه بشتى الصور حتى ولو تطلب ذلك صنع أحداث درامية كبرى وإعارتها له ليتشدق بها، بحيث تستمر هذه الأحداث في كل اتجاه داخلياً وخارجياً، وسياسياً وعسكرياً. فتضخيم العدو يكون ضرورة في مثل هذه الظروف لتضخيم الانتصارات، وتحقيق الأهداف الكبرى. أما عالم الجهاد فقد يكون ازداد انبهاراً بردة فعل العالمية القوية والمبهرة فازداد نرجسية وتضخيم لذاته.
«أبوت أباد» كانت مسرح نهاية فصل من الرواية، فصل طرح أكثر من تساؤل حول المصير الذي لقيه بطل الحبكة الكبرى: أمير الجهاد لدى البعض، وشيخ الإرهاب لدى البعض الآخر. أراد معسكر المكدونالد أن يستمر البعد الأسطوري لعدوه حتى بعد مماته، فلا يمكن لشخصية أسطورية بحجم أسامة بن لادن أن تقتل بهذه السهولة في بيت عادي، ووسط عائلي حميم لأن ذلك يعيده إلى عالم الواقع والأنسنة مرة أخرى، ويزيح الستار الأسطوري عن حقيقته، فكان لا بد أن يخطف جثة مشوهة ويلقى في البحر كسر غامض، فعالم البحر عالم الغموض والأساطير، ورافق ذلك صورة لقادة عالم المكونالد يراقبون ذلك مباشرة وكأنما هم يتفرجون على سينمائي يشاهد من آلاف الأميال كدليل إضافي على علو كعب الحضارة والتكنولوجيا على عالم الماضي والتخلف.
الصورة المنطبعة لدى معظم من ابتلعوا الطعم الكبير من المعسكرين المغلوبين، الصورة التي كانت دائماً تطمس الحقيقة المستترة وراء الخيال الذي طبعه عالم المكدونالد عن أسامة بن لادن، هي صورة المجاهد الإسلامي الملتحي الذي يعتمر رشاشه، ويسير بين الصخور الصلبة في الجبال الشامخة، يتوعد ويهدد، وينشر الرعب بين الأبرياء. صورة المجاهد الذي هجر كل شيء، وجميع ملذات الحياة لنصرة قضيته، قضية الإسلام، لنفاجئ في النهاية بنهاية شخص ضعيف ملتف ببطانية يرتعد من البرد في غرفة حقيرة يراقب صورته المضخمة على شاشة فضية أمامه. مجاهد لا يسير عبر قمم الجبال الشاهقة بل يقبع في غرفة ضيقة في بيت كبير مع مجموعة من الزوجات أحدهما تصغره بأكثر من ثلاثين عاماً، ومع قبيلة مصغرة من الأبناء والأحفاد. في عالم الواقع لا واقع الأسطورة، فعندما يحمل الشخص هماً كبيراً فإن أول ما يتأثر فيه رغبته في النساء، والنساء كجميع نساء الأرض يحتجن لحنان ودفء وشاعرية، لصورة ابن لادن القديمة لا الحديثة.
اتضخ أخيراً أن استخبارات المكدونالد الحديثة, أجهزتها المعقدة لم تكن تتتبع طريدة مستاحشة منفردة متوحشة، طريدة خفيفة التنقل في عوالم مجاهل جبال أفغانستان، بل تلاحق قبيلة مصغرة من الناس البسطاء، بينهم عجائز، وخدم وأطفال لا تخطئهم رادارات إشاعات المجتمع، وأجهزة رصد هذر عجائزه وشيوخه فكيف أخطأته رادارت الجيوش المجيشة من الاستخبارات. نهاية مسرحية لفصل من فصول الأكاذيب الكبرى الفعالة.