إنَّ المتبصر في هذه الحياة يجد أنها مليئة بالأكدار والأتعاب والهموم وكثرة المشاكل المنغصة للسعادة، قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ، قال سعيد بن جبير: يعني أن الإنسان يكابد هذه الحياة في شدة ويكابدها في طلب المعيشة. وقيل بمعنى أن الإنسان يكابد أمراً من أمور الدنيا، وأمراً من أمور الآخرة. وفي رواية: يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة؛ فلذلك ينبغي أن يعلم أن العلاج الأمثل لها بعد الإيمان والصبر عليها هو النظر إلى التفاؤل بعواقب تلك المنغصات الدنيوية والأخروية، وأن هذا التفاؤل يكون كافياً - بإذن الله تعالى - لتقبلها بانشراح صدر للتقليل منها بقدر المستطاع، وأن الفرج قريب إذا أحسن الإنسان الظن بالله؛ فيكون دائماً مستبشراً بالخير، مطمئناً لوقوعه، فلا يأس ولا قنوط؛ فرحمة الله قريبة لمن أحسن قال تعالى: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوه خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّه قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ، فأمرنا بالدعاء مع التذلل والاستكانة له، وقال سبحانه: قريب ولم يقل: «قريبة»؛ لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب كما في تفسير ابن كثير.
ولعل من ضمن هذه المكابدة والمشقة والضيق ما يحصل من بعض الأزواج من التفرق والطلاق بعدما كانا كنفس واحدة قريبين من بعضهما بعضاً. وهنا نحن لا ننظر إلى السبب الذي وقع الطلاق من أجله بقدر ما ننظر إلى الحياة بعده، سواء كان السبب من الزوجة أو من الزوج أو منهما معاً؛ ما يهمنا هنا هو كيف نعالج هذه المشكلة ونجعل من هذا الطلاق بداية لانطلاقنا في رحاب الحياة الواسعة بما يُرضي الله - عز وجل - أولاً، وثانياً بما يعود على الزوج والزوجة بالنفع والمسرات الدنيوية والأخروية.
ففي البداية يجب أن نتفكر ونتدبر ما قاله ربنا سبحانه في كتابه العزيز: وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّه كُلاًّ مِّن سَعَتِه وَكَانَ اللّه وَاسِعًا حَكِيمًا ، أي وإن لم يصطلحا، لا الزوج ولا الزوجة، بل تفرقا فليحسنا ظنهما بالله؛ فقد يُقيِّض سبحانه للرجل امرأة تقر بها عينه، وللمرأة مَنْ يوسع عليها. وهذا مُشاهَد في حياتنا المعاصرة.
أيها الأخت الفاضلة، يا مَنْ وقع عليكِ قدر الله بمفارقة زوجك ولم يكن منك تقصير في حقوقه ولا خطأ واضح تجاهه، اعلمي أن الله لن يتركك أبداً؛ فلربما كان من الأفضل لك في علم الله فراقه؛ لييسر لك مَنْ هو خير منه، تُرزقين بسببه الذرية الصالحة، فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها، إلا أجره الله تعالى في مصيبته، وأخلف له خيراً منها». قالت: فلما تُوفِّي أبو سلمة قلت كما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله لي خيراً منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم. ولربما كان فراقه سبباً للتفرغ لعبادة الله - عز وجل - فترجعي للسبب الرئيس في خلق الإنسان وهو العبادة لله وحده وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي ليوحدون الله عز وجل ويعرفونه، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، وهنا إشارة إلى اللجوء لله - عز وجل - حال الكرب والضيق، خاصة إذا حصل الطلاق والانفصال من دون سبب؛ فلمثل هذا يكون الطلاق مؤلماً في بدايته وفي نظرته الأولى، ولكنه بلا شك ينبئ بحياة جديدة سعيدة - بإذن الله -؛ فأنتِ لا تعلمين ماذا قدَّر الله لك: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْه لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّه يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ فعليك بالاجتهاد في هذه الحياة من الأعمال التي تُقرِّبك إلى الله سبحانه وتعود عليك بالنفع الحسي والمعنوي كالعمل المحتشم الذي يكفل لك حسن العيش وتنوع المجالات والأفكار والمعارف والتوجهات، ومن ذلك العمل المباح والكسب الحلال المعروف كالتجارة والخياطة مثلاً أو التدريس والحضانة ونحوها، وسواء كان هذا العمل في البيت - وهو الأفضل - أو خارج البيت إذا كان العمل محترماً ولا ينافي تعاليم الشريعة السمحة. ثم هل فكرتِ بالعمل الخيري التطوعي في الدور النسائية ورعاية الأيتام على سبيل المثال أو مَنْ بهم إعاقة من مرض أو كِبَر لا يستطيعون معها خدمة أنفسهم؟ ألا تعلمين أن مثل هذا العمل الطيب المبارك ينعكس عليك بالإيجاب مثل المرآة التي تعكس الصورة تماماً، فإن أدخلتِ السعادة والأُْس على الأخريات انعكس ذلك عليك؛ فحصل لك من الأُنْس ومن السعادة الشيء العجيب، بل وربما رجع ذلك عليك بالرزق والبركة بدعوة لم تفطني لها؛ ما كان لها السبب المباشر في حصول المقصود؛ فمن وقف مع عباد الله في حاجة وقف الله في حاجته وقضاها له كما في الحديث الذي رواه البخاري «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته».