في أحد أيام طفولتي كنت في السيارة وكنا متجهين لمكانٍ ما، وفجأة هبت عاصفة رملية. لم يكن لها نذير، عاصفة مهولة، كأن عملاقاً أخذ جبل رمل وأهاله علينا بعنف. أحسست بخوف شديد ولم أعرف ما أفعل، ولم يمض وقت طويل حتى انقشَعَت العاصفة بلا أثر، كأنما لم تكن. بعدها بسنين هبت على الرياض رياح قوية جداً مصحوبة بأمطارٍ غزيرة ورعدٍ عالٍ وبرقٍ يكاد يُذهب البصر، واشتد الجو حتى خفنا وتعوذنا بالله من عذابه، وانتظرنا بفارغ الصبر انقشاع الغمة. الكثير غيري مروا بمواقف أسوأ، خصوصاً هواة السفر والتخييم الذين لا تخلوا قصصهم من لقاءات مع البَرَد أو الصواعق أو غيرها. لكن هذه المواقف كلها تفاهات. نعم، بلا مبالغة، كل مواقفنا تفاهات. لماذا؟ لأن هذه الأرض قد مشى عليها رجل اسمه «ويليام رانكن». طالما نعرف هذا الرجل فلا يحق أن نشتكي من أي ظاهرة طبيعية مهما كانت مرعبة، لأنه مر بموقف لم يمر به أي شخص آخر، وعاش بعدها ليحكي لنا القصة. تسأل ما هي القصة؟ إليكم هذه القصة العجيبة والحقيقية:
ويليام طيار أمريكي حربي. طار كثيراً في الأربعينيات والخمسينيات الميلادية من القرن الماضي، فمهارته لا غبار عليها، لكن الحذر لا يُنجي من القدر، وويليام كان على موعد مع قَدَرٍ مرعب عام 1959م. في يوم من صيف هذه السنة انطلق ويليام بطائرته طراز «إف 8» من قاعدته قاصداً قاعدة في ولاية أخرى، وأثناء طريقه واجه غيمة مكفهرة، فارتفع فوقها وواصل طريقه، بينه وبين الأرض أكثر من 14 كيلومتراً. لما علا الغيمة سمع صوت ارتطام آتٍ من المحرك مع صوت قعقعة، ثم رأى المؤشرات تتوقف وانطلق نظام الإنذار. لمثل هذه الحالات يوجد جهاز يزود الطائرة بطاقة إضافية في حال فشل المحرك، وهذا ما فعله ويليام، فقد أمسك الذراع وسحبه لتقوم الطائرة بضخ الطاقة الاحتياطية، لكن انكسرت الذراع في يده! إذاً صار لديه حل واحد: أن يقفز خارجاً. لكن المشكلة أن درجة الحرارة حوله كانت 50 تحت الصفر ولم يكن مرتدياً حلة الضغط (حلة أو بدلة تحمي من التغيرات الشديدة في الضغط الجوي)، والأسوأ من هذا كله أن تحته مباشرة عاصفة رعدية ضخمة! لكن لم يكن هناك خيار: إما أن يخرج وإما السقوط مع الطائرة والموت المحتم. حينها ضغط زراً وقذفته الطائرة خارجاً مع مظلة الهبوط، كان هذا في الساعة السادسة مساءً. هل استوعبنا ما حصل؟ ويليام صار الآن يسبح في جوف عاصفة رعدية! ولمن تساءل كثيراً عما يمكن أن يحصل للإنسان لو وُضِعَ وسط عاصفة، فالإجابة ما يلي: أول ما حصل لويليام هو إصابته بالتثليج أو لسعة الصقيع (بسبب البرودة الشديدة)، وهي حالة تتلف الجلد والأنسجة. التغير المفاجئ في الضغط الجوي جعله ينزف من عينيه وأذنيه وأنفه وفمه. انتفخ بطنه حتى صار كبطن امرأة حامل. اجتاح الألم جسده كاملاً رغم البرودة الشديدة التي أصابت جسده بالخدر. كل هذا حدث في 5 دقائق وهو يحاول فتح مظلة الهبوط بلا جدوى. بعدها بعدة دقائق انفتحت المظلة وهدأت سرعة سقوطه في وقت لم يكن يرى فيه أي شيء بسبب عنف العاصفة.
لكن الذي حصل أن الرياح أخذت ترفعه وتنزله وتقذفه في كل اتجاه، وكانت حبات البَرَد تضربه أثناءها. بعد فترة من الدوران في منتصف العاصفة اضطر ويليام أن يتقيأ بسبب التقلبات العنيفة. ثم انطلقت صاعقة أمامه مباشرة. يصف ويليام الصاعقة أنها مثل شفرة أو موس كبير أزرق اللون سمكه قرابة مترين. ومع الصاعقة زمجر الرعد، والذي لم يسمعه ويليام فقط بل شعر به يتغلغل في خلايا جسده. كان المطر يهطل بغزارة واضطر أن يكتم أنفاسه لئلا يغرق. أثناء المعمعة هجمت صاعقة على مظلة ويليام، حينها ظن أنه مات. بعد فترة من الزمن هدأت العاصفة، وهبط ويليام وسط غابة. نظر إلى ساعته وإذا العقارب تشير إلى تمام السادسة وأربعين دقيقة. أربعون دقيقة وسط عاصفة رعدية هائلة، وسط الرعد والبرق والصواعق والبَرَد والمطر. مشى قليلاً ونادى للمساعدة، وأُدخِل مستشفىً لعلاج ما أصابه وتعافى بعدها. عاش بعدها 50 سنة، وتوفي عام 2009، وكان قد كتب كتاباً يدوّن فيه هذه التجربة الفريدة باسم «الرجل الذي امتطى الرعد».
دائماً أتعجب من قدرة البشر على احتمال ظروف بالغة العنف، وويليام يثبت لنا أنه من لم يحن أجله فحتى الصواعق والأعاصير لن تقتله بإذن الله.