ربما علاقتي الشخصية مع الصديق عدي، ابن الشيخ عبدالله بن خميس رحمه الله، تبيح لي الآن أن أكتب ما أريد، وما أحلم به، فقبل سنوات وقد كنت مشرفًا على سلسلة كتب الرواد للناشئة، التي صدر منها خمسة عشر كتاباً عن رواد الأدب والفكر والثقافة والفنون، مما أتاح لي فرصة التعرف على منجز جيل عملاق، جيل كان كل فرد من أفراده عبارة عن مؤسسة ثقافية متكاملة، تجد الواحد منهم يجمع بين البحث والتحقيق والمقالة والشعر، تجد الواحد منهم صنع مؤسسة صحفية كبرى، وترك لنا إرثاً ثقافياً كبيراً، فكنت ألوم نفسي أننا جيل توفرت له كل سبل الكتابة والإبداع، وأصبح سهلاً علينا التواصل مع العالم بأكمله بضغط زر صغير، لنصل أمريكا وبريطانيا وفرنسا، نصل بنصوصنا ومنجزنا إلى الشرق والغرب، ومع ذلك لم نحفر كما فعل هؤلاء.
أقول إنني قبل سنوات، وحينما استمتعت بقراءة سير ذاتية كتبها هؤلاء العمالقة، ككتاب «حياتي مع الجوع والحب والحرب» لعزيز ضياء، قلت لنفسي لو كانت هذه السيرة لدى أحدنا لأنجز منها عشرات الروايات، ولأصبح دوستويفسكي أو نجيب محفوظ، لكنه عزيز ضياء، الذي آثر أن يروي حياته بطريقة الفنانين الكبار، كذلك كتاب «من سوانح الذكريات» لحمد الجاسر، وكتاب «مذكرات وذكريات» لعبدالكريم الجهيمان، وغيرهم، كنت أسأل عدي بن خميس عن مذكرات الشيخ ابن خميس، وهل كتب شيئاً حول حياته الثريّة، لأنها ستكون شهادة تخص مرحلة ما، حول ذاته وحول المجتمع والظروف التي عانى منها، كالظروف الرهيبة التي مرَّ بها حمد الجاسر رحمه الله، فعرفت منه أن ثمّة مذكرات مكتوبة فعلاً، كتبها الشيخ حول طفولته وذكريات شبابه ومعاناته، لكنها لم تطبع بعد، لأسباب ربما يكون السبب الرقابي جزءاً منها، وربما سبباً شخصياً محضاً، وقد يكون الشيخ ابن خميس، مثل آخرين لا يحبون أن تنشر مذكراتهم إلا بعد رحيلهم، لأن السيرة الذاتية تختلف عن الرواية التي تنهل من المخيلة، وتعيد تشكيل الواقع برؤية جديدة، فالسيرة أمينة لكل ما حدث لصاحبها، وسرده بكل وضوح وحرّية، وهي فن يزدهر في الغرب أكثر مما لدينا، لأنهم تجاوزوا المخاوف والتردد في الكتابة عن الذات، وعلائقها المتشابكة بالآخرين، وما قد تثيره السيرة من ردود أفعال غاضبة أو محبطة، بينما لدينا لم تزل كتابة السيرة تحتاج إلى المزيد من الجرأة والصدق وتحمل ردود الآخرين.
أعود إلى سيرة الشيخ ابن خميس، وأتمنى كما يتمنى آخرون يتابعون تحولات البلاد في بدايات تأسيسها ثقافياً، على أيدي هؤلاء الروّاد، أن يحرر أبناء ابن خميس وبناته، هذه السيرة من سجنها، وأن تتم طباعتها والاحتفال بها في معرض الرياض الدولي للكتاب، وألا تتعرض إلى أي تحرير مهما كان اجتهاده، فالشيخ الذي أبقى على سيرته دونما نشر، كان يؤمن بأن الكلمة حرّة، لا بد أن تطلق كما هي، دون تحرير ولا تحوير، لذا يجب علينا احترام منهجه ورؤيته، وأن تظهر هذه السيرة كما أراد لها.