كان مما أشير إليه في الحلقة السابقة كون اللغة دعامة من دعائم هوية الأمة، وحرص الأمم المتقدمة على دعم لغاتها القومية والدفاع عنها، وظهور اهتمام باللغة العربية، في الآونة الأخيرة، في بلدان إسلامية غير عربية، وجهود بلدان عربية لإحلالها
مكانة رفيعة كونها اللغة الوطنية الموحدة.. ومما أشير إليه، أيضاً، عدم وقوف التعليم باللغة الوطنية عقبة أمام التقدم العلمي والتقني، وعدم التزام قادة العرب بما قرره أسلافهم، بل ربما ما قرروه هم أيضاً، من قرارات.
والحديث في المقالة -وإن تطرق لوضع اللغة العربية بعامة- مركز على مضايقتها في مهدها بخاصة. وكنت قد كتبت مقالة عنوانها (الجانب الثقافي للأمركة)، نشرت في الجزيرة عام 1426هـ، ثم أعيد نشرها ضمن كتابي مقالات عن الهم العربي، الذي نشر في العام نفسه. والمراد أمركة منطقتنا العربية ثقافياً.
ومما ورد في تلك المقالة:
محاولات النيل من اللغة العربية الفصحى ليست وليدة هذه الأيام المكفهرة بالنذر. ذلك أن دعوات ظهرت قبل عقود تنادي بالكتابة بالعامية، وأخرى تنادي بالكتابة بحروف لاتينية. لكن تلك الدعوات فشلت. على أن احتلال جيش صدام العدواني للكويت كان من بين الذرائع التي أدت إلى وجود عسكري أمريكي في المنطقة، إضافة إلى النفوذ السياسي الواضح. وكان من النتائج السلبية لذلك الاحتلال ترسخ الإقليمية وتعمق المشاعر القلبية. ومن صور ذلك الترسخ وهذا التعمق ظهور مجلات تعنى بشؤون القبائل والشعر العامي). ولقد توالى ظهور قنوات تليفزيونية بعد كتابة تلك المقالة ونشرها.
ويكاد يكون متزامناً مع احتلال أمريكا وأعوانها العراق -أو نتيجة له- ارتفاع أصوات منها أن يكون التعليم في منطقتنا بالإنجليزية بدلاً من العربية، التي هي اللغة الوطنية، قومياً ودينياً، وكان الدكتور محمد حرب قد نشر حينذاك مقالاً في الهلال أشار فيه، اعتماداً على ما قال: إنه ورد في جريدة الأيام البحرينية، إلى مشروع قدمته الإدارة الأمريكية زعم من وضعوه أنه لتحديث اللغة العربية، ومن بين تعليلاتهم لذلك:
1- عدم تطوير العربية وتحريرها من أشكالها القديمة مما أدى إلى صعوبة كبرى في استيعاب أهل الحضارات والأديان الأخرى لها أو تعلمها أو الاقتراب فكرياً ممن يتحدثون بها.
2- أن العلوم الدولية لا تستطيع أن تعتمد العربية بسبب تعقد رموزها وصعوبة أشكالها في الوقت الذي يستطيع أهل العربية إتقان اللغة المشتقة من اللاتينية، مثل الإنجليزية والفرنسية.
3- أن العرب يتحدثون اللغات الأوروبية مثل أهلها مما يؤكد سهولة أشكال اللاتينية وحروفها.
4- أن هناك لغة مشتركة يمكن أن تجمع سكان المعمورة عدا الذين يتحدثون العربية. وهذا ما يجعل من الصعب بناء تواصل فكري معهم أو معرفة دوافعهم النفسية.
5- أن صعوبة التقاء العربية مع الإنجليزية كانت الدافع الرئيس وراء موجة الكره العربي لأمريكا وإسرائيل والشعور بالبغض لمن يتحدثون الإنجليزية والفرنسية.
وليس المجال هنا، مجال مناقشة تلك التعليلات، لكن من وصايا ذلك المشروع أنه لا بد من تطوير مادة اللغة العربية في المدارس، وذلك بإلغاء المناهج القائمة التي تعتمد على دراسة اللغة والصور الجمالية وإبداعاتها والكلمات والنصوص المتشابهة، مثل الشعر القديم المنتهي بقافية واحدة، وإلغاء ما تتضمنه العربية ومناهجها من توجيهات ومبادىء دينية قد لا تتفق مع بناء تواصل مع غير العرب.
ما مدى نجاح تلك الأصوات التي ارتفعت منادية بأن يكون التعليم بالإنجليزية بدلاً من العربية؟ وهل أخذت الوصية الواردة في المشروع الأمريكي تجاه منهج اللغة العربية في مؤسسات التعليم في مهد هذه اللغة بعين الاعتبار؟ الإجابة عن هذين السؤالين متروكة لمن يتأملون الواقع ويرون امتداداته.
قبل الحديث عن شيء من مضايقة اللغة العربية في مهدها، وهو جزيرة العرب، أود أن أشير إلى أن إنشاء قيادة وطننا العزيز مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية دليل من أدلة متعددة على الجهود المشكورة المقدرة، التي وفق الله هذه القيادة إلى القيام بها. ومن المعروف ما بذلته هذه القيادة، أيضاً من جهود متعددة خدمة للغة العربية، مثل إنشاء كليات للغة العربية للناطقين بها وكليات ومعاهد أخرى لغير الناطقين بها -داخل الوطن وخارجه- كي يتعلموها. وإذا كانت هذه الجهود مشكورة ومقدرة فإنها غير مستغربة على قيادة وطن يكون معظم أرجاء مهد العرب الأول، وهو مهبط الوحي المنزل من رب العالمين بلسان عربي مبين.
وبالعودة إلى الموضوع المتحدث عنه، هنا، وهو مضايقة اللغة العربية في مهدها، أشير إلى مقالة كتبتها عام 1420هـ، ونشرت في ثلاث حلقات بصحيفة الرياض ذلك العام، بعنوان: (عولمة العامية وعرض الموروث). ومما ورد في الحلقة الأولى من تلك المقالة: (إن هذه البلاد التي تكون الجزء الأكبر من الجزيرة العربية مهد اللغة العربية الفصحى ومهبط الوحي الكريم الذي أنزل على خير خلق الله بهذه اللغة العظيمة، يؤمل أن تكون رائدة في استعمال الفصحى والحد من كل ما قد يؤثر سلباً على نشر هذا الاستعمال وأن القارىء لتاريخ مؤسس هذا الكيان، الملك عبدالعزيز، رحمه الله، يرى إدراكه لما يحتمه موقع هذا الوطن، الذي قاد مسيرة وحدته، وسعى إلى بناء حضارته، ويرى اهتمامه البالغ بلغة القرآن وحرصه على استعمالها. ولعل من أكبر الأدلة على هذا وذاك أنه أفردها في الاستعمال في جميع لقاءاته الرسمية في المناسبات المختلفة، وفي طليعتها الاحتفال بموسم الحج. فمع أن المتعلمين في زمنه كانوا -بصفة عامة- محصورين عدداً فإن الشعراء الذين كانت تتاح لهم فرصة إلقاء قصائد أمامه وأمام ضيوفه في تلك المناسبات، كانوا شعراء الفصحى.
كان المتوقع حدوثه في وطننا العزيز خصوصاً وفي بقية بلدان الجزيرة العربية عموماً أن تؤدي وفرة المتعلمين -نتيجة انتشار التعليم- إلى ازدياد مكانة اللغة العربية الفصحى، رسمياً وشعبياً. غير أن هذا لم يحدث. ذلك أن الشعر العامي، أو النبطي، أخذ يزاحم ما هو بالفصحى في المناسبات الرسمية. بل إنه، أحياناً، يحل محله. ومن الواضح أن مما زاد في انتشار غير المقول بالفصحى اندفاع بعض شعراء الفصحى، وبخاصة الشباب الذين يطلق عليهم اسم الحداثيين، إلى كتابة شعرهم بطريقة غامضة المعنى فاقدة الجرس، إضافة إلى تغني المغنين والمغنيات بالشعر العامي، إعجاباً بكلماته في حالات نادرة أو رغبة في الحصول على المبالغ، التي يدفعها بعض قائليه من ذوي الجاه والمال، في أغلب الأحيان.
وقبل الانتقال من مسألة مزاحمة الشعر العامي، أو النبطي، للغة العربية الفصحى أود أن أشير إلى ثلاثة أمور:
الأول: أن من هذا الشعر ما هو بديع محلق لا يقل إمتاعاً لمن يفهم عباراته عن الشعر البديع المحلق المكتوب باللغة الفصحى.
الثاني: أن هذا الشعر أقرب الأشعار العامية في الوطن العربي إلى الشعر المقول بالفصحى، مفردات وسبكاً وأوزاناً، وأنه كان -إلى وقت قريب- له دور بارز في مجريات الأحداث الوطنية وتصويرها.
الثالث: أن وجود شعر عامي -بغض النظر عن تسميته- جنباً إلى جنب مع الشعر الفصحى أمر واقع، ماضياً وحاضراً، وأنه سيظل مستمراً. لكن هذا الوجود لا يمثل -في نظر كاتب هذه السطور- خطراً كبيراً على الفصحى. غير أن من المؤمل أن تصبح المكانة الأولى في المجتمع لما هو مكتوب بالفصحى، ومن الخطوات التي يمكن أن تتخذ في هذا الصدد أن يقتنع من في أيديهم مقاليد الأمور أن يكون ما يلقى أمامهم في المناسبات الرسمية بالفصحى وحدها، وأن تقلل المساحة المتاحة لنشر الشعر العامي في وسائل الإعلام الرسمية تدريجياً، وبذلك ستتجه أعداد من شعرائه، وبخاصة أن كثيراً منهم متخرجون من جامعات، إلى الكتابة بالفصحى. ولو تم هذا لكان فيه مكسب للفصحى يسهم بتعزيز مكانتها الاجتماعية.
على أن الأخطر، بالنسبة للغة العربية الفصحى. لغتنا الوطنية والقومية..، هو جعل اللغة الأجنبية، وبخاصة الإنجليزية، مزاحمة لها. هناك وضع مؤسف غاية الأسف، وهو أن النظرة إلى اللغة العربية في جزيرة العرب.. مهد فصحاها.. قد أصبحت نظرة دونية. ومن مظاهر هذه النظرة الإعجاب الكبير بمن يتكلم الإنجليزية، بل كان مما يجري على ألسنة بعض الناس عندما يشيرون إلى من يعرف شيئاً من هذه اللغة مهما كان قليلاً: إنه (يتكلم بسبعة الألسن). ومن ذلك التشجيع الحار من الكثيرين -بمن فيهم رجال التعليم وكبار المسؤولين في الدولة- لأي تلميذ يلقي في احتفال مدرسي عبارات بالإنجليزية في حين لا يلقى من رائع في إلقائه كلاماً باللغة الفصحى مثل ذلك التشجيع.