قبل عقود من الزمن كان العالم يعتبر المواطن السعودي العادي من ميسوري الحال، وكان المواطن يرى نفسه كذلك. يسافر في الإجازات ويسكن في أماكن محترمة، ويرتاد مطاعم نظيفة متوسطة المستوى على الأقل. وكان الريال كما قال «يرطن». واليوم صار المواطن لا يسافر إلا لماماً، وإن سافر يبحث عن أماكن إقامة مخفّضة أو رخيصة، وأصبح أحياناً يأكل على الواقف من البسطات لارتفاع
كلفة المطاعم. كيف كنا وأين صرنا؟.. سؤال يوجه لأجهزتنا المالية والنقدية التي لا ترى المواطن إلا رقماً في ميزانياتها وسياستها النقدية، وشعارها دائماً عدم التغيير وبقاء كل شيء على طمام المرحوم.
وهنا وقفة للتساؤل هل لدينا سياسات نقدية ومالية متطورة مرنة تتفاعل مع يحيط بنا من أوضاع، ومع ما نحن عليه من أحوال، أم أننا نسير وفق آليات جامدة وضعت منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً ولا يجرؤ أحد على الحياد عنها؟.. فمنذ خمسة وثلاثين عاماً ونحن متعلقون بأهداب الدولار الأمريكي بصرف النظر عن وضعه، أو سعر صرفه وهل في وضع جيد أو وضع متدهور كما هوعليه اليوم. دول العالم كافة بما فيها دول مثل تاهيتي، وموريتانيا، وموزمبيق عدلت سعر صرف عملاتها مقابل الدولار المتهاوي، أما نحن فننظر لسعر صرف عملتنا أمام الدولار وكأنما هو أمر مقدس ممنوع المساس به.
الشيء الوحيد المنطقي الذي يمكن أن نستفيده من سعر الصرف الحالي للدولار هو أن بعض الشركات التي تصدر لبناً، أو بيضاً، أوبيتروكيماويات تعلن عن قوائم أرباح مضخمة بالريال السعودي، ثم تعود وتصرفها لعملات أخرى مرة أخرى لشراء مدخلات صناعتها، ومصاريف إدارتها، فلا يطال المساهمين من هذه الأرباح إلا الريش. والعجيب في الأمر أن أحد مسؤولينا صرح في مؤتمر نقدي أن ربط الدولار لا يمكن أن يفك، ونحن نعتمد على النفط في 90% من مجمل دخلنا القومي. جميل! إذا كان الأمر كذلك، ولا أمل لفك الارتباط، فلماذا التمسك بسعر منخفض جداً للريال مقابل الدولار؟.
ما كنا نشتريه بأربعة ريالات قبل عشرة أعوام أصبح بستة عشر ريالاً اليوم. أسعار منتجاتنا ذاتها، ألبان، لحم، بيض ارتفعت بشكل مماثل. كيلو اللحم كان بعشرين ريالاً، واليوم يلامس الستين ريالاً، كيلو الجبن كان بسبعة عشر ريالاً، وأصبح بتسعة وأربعين ريالاً، والسبب في ذلك ليس لأن هناك ارتفاعاً حقيقياً في أسعارها، بل إن الريال فقد ما يقارب نصف قيمته الشرائية. ورغم ذلك فنحن نستمر في محاربة التضخم من خلال دخل المواطن فقط، ولا زلنا نتغنى بسياساتنا النقدية الحكيمة. والجهة المسؤولة عن سعر الريال ذاتها تنسى أوتتناسى أنها مسؤولة بشكل مباشر أو غير مباشر لخسائر معظم الشعب لأموالهم في سوق الأسهم في محاولة غير حكيمة لكبح التضخم النقدي بسحب مدخرات المواطنين لسوق منفلتة غير ناضجة بدلاً من إجراءات أخرى مثل تعديل سعر الصرف. ولا نبالغ إذا قلنا إن كثيراً من الناس لا يزال يعاني من تلك النكسة المشئومة في سوق الأسهم حتى يومنا هذا.
نسمع اليوم عن زيادة الإنفاق العام بمئات مليارات الدولارات، وضرورة ذلك لمساهمة اقتصادنا في تحريك الركود العالمي، وعندما أعلن خادم الحرم الشريفين -حفظه الله-، عن مكافأة راتب شهرين لهذا المواطن الغلبان، سارعت حكمة مسؤولينا لتنفي تضمنها أياً من البدلات بما في ذلك بدل الغلاء 15% فقط الذي ضمه أطال الله عمره للراتب الأساس بقرار يسبق قرار المكرمة. تناقض عجيب زيادة الإنفاق من جهة وتقتير من جهة أخرى، فالجهة ذاتها التي تتغنى بإغداقها المليارات على المشروعات المختلفة، تستكثر على المواطن بدل غلاء المعيشة! أليس إنفاق المواطن جزءاً من الإنفاق الوطني العام الذي نحاول زيادته؟.. أمر عجيب حقاً!.
في كل مناسبة داخلية أو خارجية، في دبي، دافوس، لندن، نيويورك، وغيرها لا يفوت مسؤولونا فرصة للحضور، ونراهم، ما شاء الله يسكنون في أغلى الأماكن، وفي أحسن حللهم: بدل حرير، معاطف كشمير، وكرافتات آخر صرعة، يتحدثون بكل أريحية مع أيّ مخلوق يتوجه لهم بالكلام، ويوزعون الابتسامات في كل اتجاه، ويستجدون المنصات لإطلاق التصريحات، وما أن يعودوا إلينا يقبعون في المكاتب العلوية من مقراتهم، خلف متاريس، من المديرين والسكرتاريا، ولا يملكون الوقت لمقابلة الجمهور، ولا يخرجون علينا لتفسير ما يحدث في اقتصادنا إلا قبيل تجديد وزاري مرتقب. وعندما يتكلمون معنا يتكلفون، ويدورون حول المواضيع ولا يدخلون في صلبها.
سؤال مهم، نأمل، كمواطنين، أن يجاب عليه بكل صراحة ووضوح، أين موقعنا نحن المواطنين العاديين، غير المقاولين، وغير التجار، وغير المسؤولين من زيادة الإنفاق؟.. لماذا تخلو جميع تقاريرنا المالية من أية معلومة تحدد نصيب الفرد من الدخل العام كما هو متبع في جميع التقارير السنوية للاقتصادات الأخرى؟.. وكيف توضح تلك الجهات نصيب الفرد من زيادة المدخرات أوزيادة أسعار النفط؟.. فالأرقام وحدها تخدع، فعندما جمعت دخل عشرة ممن أعرفهم من متوسطي الدخل مع دخل تاجر أعلن مؤخراً عن توزيع ثروته، نتج عن ذلك متوسط دخل ملياري ريال لكل واحد منهم مع أن متوسط دخلهم السنوي لا يتجاوز المئة وخمسين ألف ريال.
هناك أجماع في الداخل والخارج على أن الملك عبدالله أحرص الناس على رعاية شعبه، وهو يرى سعادته في سعادتهم، وفي كل مناسبة يعبّر عن ذلك ويحث المسؤولين على الاهتمام بالمواطن، فهل تُنقل له حفظه الله حقيقة وضع المواطن المتوسط الدخل كاملة؟.. وحقيقة الارتفاع الصاروخي في الأسعار، ووقوف الجهات المختلفة عاجزة حيال ذلك؟.. أم أننا نجمّل ذلك بمتوسطات أرقام لا تعكس الحقيقة مثل طريقة حساب متوسطات الدخل؟.
لا شك أن الصرف على المشروعات ضخمة التكلفة أفضل من عدم الصرف عليها، ولا شك أن ضخ الأموال في صناديق التسليف جيد، ولكن كل ذلك في المحصلة النهائية يصب في مصلحة فئة قليلة من المقاولين، والعقاريين، والتجار الذين يعرفون عن هذه المشروعات حتى قبل أن تقر، ويسبقونها، ويستبقونها برفع الأسعار. وكثير من هذه الأموال تجد طريقها بسرعة كبيرة للخارج ولا تدور في الاقتصاد كما مرجو منها، لأن الكثير من مقاولينا، وتجارنا هم واجهات لمقاولين وشركات تجارية خارجية، مقاولون أجانب يقبضون بالعملة الصعبة ويخرجونها فوراً خارج البلاد. وللمعلومية فنحن ودول الخليج الأخرى سبب رئيس في إنعاش سوق العقارات الفاخرة في لندن.
وقد يكون من الأنفع والأجدى اقتصادياً أن يرفع الإنفاق المحلي عبر رفع قدرة المواطن على الإنفاق أيضاً، عبر معالجة اختلالات سبل توزيع الدخل القومي، أي الإنفاق عبر آليتين: مشاريع كبيرة ومعقولة التكلفة، ورفع دخل المواطن مباشرة. فالقرض يجب أن يكون للمواطن مباشرة وليس للعقاري، وبدل السكن، الذي هو حق للمواطن، يجب أن يدفع للمواطن وليس لحساب المؤجر، كما تشترط كثير من الجهات الحكومية اليوم. ونختم بالقول إن المسؤولية الوطنية والإنسانية تستوجب أن نعيد المواطن لما كان عليه في السابق، مواطناً كريماً يفتخر بوطنه وانتمائه له، وأن تكون له عملة محترمة، ذات قيمة تعكس قيمته وقيمة اقتصاده. ولعلنا نُسمع أحياءً، ولا يذهب كلامنا هباءً.