بالأمس القريب.. وقبل ستة أشهر تقريباً رأيته بهيبته المعروفة ووجهه الضاحك مثل وجه الفجر يجلس على كرسي متحرك يدفعه عمي في أحد ممرات المستشفى البارد قادماً ليزور أبي عصام الخميس -رحمه الله- دلف في الساعة التاسعة مساءً غرفة العناية المركزة حيث كان يرقد والدي على السرير الأبيض ينتظر الخبر اليقين خبر تشخيص مرضه وسبب وجعه وألمه الذي لم يهدأ ولم يرحم.. كان لقاءً حزيناً بكل المقاييس، حميماً حد الثمالة، مربكاً وصاخباً رغم دفئه وهدوئه.. قعد والدي متماسكاً قوياً فهو رجل.. ومن قال إن الرجولة تمرض؟.
أذكر بعضاً مما دار بينهما من حديث، قال له والدي -رحمه الله- إنني أشعر ولكني لست بجازم أنك راضٍ ٍعني.. فهل أنت حقاً راضٍ عني؟.. فقال له جدي عبدالله -رحمه الله- بل أنا راضٍ عنك كل الرضا وأعادها ثلاث مرات متتالية، دارت بينهما حديث بالعيون فقط عن الشوق والحياة والأقدار والخوف، ودعا جدي له بالشفاء العاجل ورحل.. رغم أن جدي قليل الحديث.. إلا أن كل كلام الدنيا كان مكتوباً على وجهه الذي أرهقه الحزن والشقاء وقلة الحيلة على ما قسم الله لابنه من مرض عضال.. وما هي إلا أيام قليلة حتى لحقه جدي إلى المستشفى، بعد ما نهشه الحزن وتمكن منه الضيق والألم.. فنقل بسرعة إلى الطوارئ لعل الطب يفلح في معالجة ما أفسدته الدنيا، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث بل كانت تتدهور وتتردى حالته الصحية يوماً ً بعد يوم.
شُخّص بعد ذلك مرض والدي، وخرج من المستشفى وبيده كيس يحمل به عشرات الأدوية التي في جوفها مصير جسده.. ورغم ضعف عظامه المسكونة بالآم والتي تجبره على ملازمة الفراش قرر أن يقوم بزيارة لجدي رحمه الله، زيارة كانت الأخيرة وكأنه لقاء الوداع، قبّل يديه ورأسه ولم يعلم أنها ستكون القبلة الأخيرة، وسقطت دموعه من عينيه المتعبتين بغزارة وكأنه يحضر ويحرص على حزن ودمع يليق بمستوى اللقاء الأخير، ورحل إلى الولايات المتحدة طامحاً بالشفاء على أرضها، ولكن القدر كان له كلمة أخرى، حيث توفي أبي بعد معاناة قاسية ومأساة من العيار الثقيل، ولم يعلم جدي برحيله أبداً، حيث كانت تزداد حالته سوءاً ويتعقد ملفه الطبي أكثر، وسط عجز الطب والأطباء حتى وافته المنية في الثامن عشر من الشهر الحالي وخلف وراءه حزناً وفراغاً لم ولن يسده أحد غيره.
وفقدت الأسرة عمودها وخسر الوطن والمجتمع الذي يشاركنا حبه عالماً جليلاً بمرتبة إنسان بسيط..
لم تكن دموعنا قد جفت، وجراحنا وآلامنا قد برت، لم نستيقظ بعد من فجيعة وفاة محبوب الأسرة عصام الخميس، حتى أقبل الموت وهادم اللذات على أسرتنا مرة أخرى وبعد ثلاثة أشهر فقط ليسرق فريسته الأخرى فينطفئ بعد ذلك نور منزلنا إلى الأبد.
هكذا علمتنا الحياة أن المصائب لا تأتي فرادى.. فاليوم يرحل جدي الشيخ عبدالله من هذه الدنيا الفانية ليلاقي ابنه البار في الدار الآخرة فهو من كانت تربطه به علاقة خاصة جداً، كان والدي -رحمه الله- يحفظ كثيراً من قصصه وأخباره وأشعاره وقصائده، كانا يجلسان معاً يتقاسمان حب الأدب والشعر، يبدأ والدي بمطلع إحدى قصائد والده فيكملها جدي، وإن لم تسعفه ذاكرته لإكمالها كان ابنه عصام ذاكراته التي لا تخونه أبداً.
فقد كان عبدالله بن خميس شاعره المفضل، وأديبه الشامخ الذي لا يتوقف عن إدهاشه وإبهاره كلما تعرف وتعمق في أدبه، يرافقه ديوان «على ربى اليمامة» في حلّه وترحاله. فعلاقة هذين الرجلين كانت وستبقى مثار إعجاب وتقدير مما تحمله من برّ وروعة وانسجام.
أما حين أتحدث عن جدي وأحاول أن أرثيه فأنا أعترف أني أعجز عن ذلك، فكيف تستطيع الكلمات والمفردات على رثاء أستاذها ومبدعها؟!.. وكيف تودع صحاري نجد وجبالها وهضابها ووديانها ورمالها من مشى فوق الرمضاء وتحت الشمس الحارة ملبياً نداء الوطن المرتفع في أعماقه حتى يكتب أسماءها ومواقعها، ويجعل لها تاريخاً وحضوراً في سطور كتب الجغرافيا والتاريخ والحضارة؟ كيف يرثي الأدب شاعراً وكاتباً وصحافياً أبدع في مجالات الأدب وأعطى زخماً ونكهة مميزةً وخاصة للأدب السعودي والعربي؟.. بل كيف يرثي الوطن ورجاله شيخاً أفنى أيامه وشهوره وسنينه الطويلة لخدمة العلم والعمل والقلم؟.. فكان بحق فخراً لهذا الوطن والشعب الغالي.
فعبدالله بن خميس ليس رجلاً عادياً حتى يكون رحيله عادياً.. فقد هزت وفاته الوسط الثقافي والأدبي، وحزن الوطن قيادة وشعباً على رحيله، ابتداءً من مليكنا خادم الحرمين الشريفين عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- وولي عهده الأمين والأمراء والوزراء الذين قدموا واجب العزاء والمواساة لأهل الفقيد مؤكدين مرة بعد مرة أنه فقيد للوطن بأكمله.. فقد توافد المعزين من كافة أرجاء المملكة وربوعها نساءً ورجالاً البعض منهم لم يقابله يوماً ولا يعرف أحداً من أبنائه وأقاربه لكنه قطع المسافات ليعزي في وفاة شيخ جليل وأديب طبقت سمعته الآفاق، جاؤوا من أجل تلك المسيرة الزاخرة بالعطاء والتضحية والسهر من أجل الدين والوطن والأمة.
فقد تنجب المملكة شاعراً مثل عبدالله بن خميس، وقد تنجب صحافياً ورجل دولة مثل عبدالله بن خميس، وقد تنجب مؤرخاً وجغرافياً مثل عبدالله بن خميس، ولكني أجزم أنها لن تنجب رجلاً واحداً بكل هذا الصفات والمواهب اسمه عبدالله بن خميس.
فاليوم لا أدري من أرثي؟ أأرثي الأديب أم المناضل في سبيل قضايا وطنه وشعبه؟.. أم أرثي أحد أهم أعمدة الصحافة السعودية وروادها؟.. أم أرثي المؤرخ والجغرافي وعالم الأرض واللغة والأنساب؟.. فنحن أمام هامة شامخة ونخلة باسقة هي بالأصل مجموعة رجال في جسد وعقل واحد أبدع إنتاجاً أدبياً غزيراً تفاخر به المملكة وتتباهي به المكتبات العربية.
ورغم كل هذا المجد والاهتمام الذي حظي به أديباً قد يظن البعض أن الغرور والتكلف قد وجد له طريقاً إلى نفسه، ولكن الحقيقة والواقع يقول: إن تلك المكانة العالية لم تزده إلا بساطة وتواضعاً وقرباً من الله والناس، فقد فتح بيته لطلاب العلم وفتح قلبه للمحتاج والمحتج، وقد كان يتناول طعام الغداء أحياناً مع عمال مزرعته «عمورية» بحب وسعادة، يضحك مع الصغار ويستمع إليهم، بسيط في مقعده وملبسه، عظيم بعقله وفكره وتعدده.
كم من التواضع يلزمني كلما تذكرت أن قدري أكرمني بالسكن معه في منزله العامر، وقربي منه أعطاني حق الامتياز لقراءة مقالاتي عليه طمعاً في التصويب والنقد، ولكنه لم ينقدني يوماً ليس لأني لا أستحق النقد، بل لأنه كان يفضل الدعم والتشجيع مما حفزني لكتابة ما هو أقوى وأجمل في المرة القادمة، كان يبادرني بابتسامة راضية ودعوة صادقة بالتوفيق والسداد في طريق الكتابة الصحفية الشاق على حد وصفه، فهو من عانى كثيراً بمخاض ولادة مجلة الجزيرة حيث وصفه البعض بأبشع التهم، ففكر الناس في ذلك الوقت كان مازال مظلماً وضيقاً، ولكن لولا عزيمته الحديدية وإيمانه بحلمه وبلا شك وقفة الأمير سلمان إلى جانبه دوماً وأبداً، لما كانت بيدنا اليوم تلك الصحيفة التي أصبحت منارةً للثقافة والإصلاح كما أضحت تتصدر المراتب الأولى للصحف العربية.
(لولا المشقّة ساد الناس كلهمُ
الجود يفقر والإقدام قتالُ)
هذا ما علمتنا إياه سيرة فقيدنا وفقيد الأدب والصحافة والوطن والأمة العربية فقد اغترفت أرض كنعان سنيناً من عمره وكانت مأساتها تعاوده كشجن لا شفاء منه عبر عنها شعراً ونثراً، ودعمها مع رفيق دربه سلمان بن عبدالعزيز بالمال والقلم، فاستحق وشاح منظمة التحرير، وشارعاً باسمه في قطاع غزة، ولا عجب اليوم أن يعزي في وفاته من هو على رأس السلطة الفلسطينية الرئيس محمود عباس باسمه وباسم الشعب الفلسطيني كافة، ولا غرابة أن تنشر الصحف الفلسطينية تغطية خاصة عن وفاته -رحمه الله رحمة واسعة-.
فاليوم انطفأت شمعة أخرى.. وفقدنا غالياً آخر، وباتت جراحنا أكثر وجعاً وعمقاً؛ فطعنتان في القلب تؤلمان، وضربتان بالرأس توجعان، فبعدما استيقظت من كابوس بنكهة الواقع على وفاة أبي وصديقي ورفيق عمري الذي غيبه الموت عنا ها نحن اليوم نفقد شيخنا وعمود أسرتنا وقدوتنا دائماً وأبداً.
ويوارى الثرى في مقبرة الدرعية وعلى بعد قبور قليلة من قبر والدي، فكيف نقسم الأحزان اليوم؟.. كيف نوزع الدموع الحارة ؟.. كيف نستطيع تفسير تلك الأحداث والأقدار؟.. كيف نكمل حياتنا بلا ضوء ولا نور يهدينا وينير لنا البيت والدنيا بأكملها؟.. ماذا سيكون حصاد هذا الموسم الخصب من الفقد والألم والدمع؟؟ فقد رحلتما وخلفتما حزناً لا تقوى السنين على ابتلاعه، وتركتما توقيعكما على كل شيء، فخسارتكما خسارتنا الكبرى في بورصة الحياة.. فرحمكما الله رحمة واسعة وأكرم نزلكما ووسع قبوركما وجعلكما من أمة مرحومة، وجمعنا بكما في الفردوس الأعلى. فإلى الله إلى سدرة المنتهى ثم إلى جنة المأوى والرفيق الأعلى والكأس الأوفى.. إلى جنان الرحمن جنان الخلد إن شاء الله إنه جواد كريم.
نبض الضمير
(هي الأيام كما شاهدتها دول
من سرّه زمن ساءته أزمان)