تبدو دولة فلسطين العربية قريبة القيام أكثر من أي وقت مضى في تاريخنا الحديث، بعد أن حققت نقلتين نوعيتين مهمتين تجلتا في:
1 - نزول شبابها إلى الشارع من أجل إعادة إحياء قضيتها، وإنهاء الانقسام الوطني العميق الذي كاد يقضي عليها، بكل ما في الكلمة من معنى. ثم انتقاله بعد أيام قليلة إلى تنظيم تظاهرة غير مسبوقة في تاريخ ما بعد طرده من وطنه، انطلقت من البلدان العربية المحيطة بفلسطين المحتلة، ومن الداخل الفلسطيني في آن معا، مشكلة طوقا بشريا محكما أحاط بها من جميع الجهات، بينما اخترقتها جموع الشعب المقيم فوق أرضه الوطنية، مع ما رافق هذا الهجوم المزودج من بسالة جعلت عشرات الشبان يجتازون خطوط العدو وحقول ألغامه في الجولان السوري المحتل، ويصلون إلى بلدة مجدل شمس، حيث أدوا الصلاة، رغم ما سقط منهم من شهداء خلال هذه العملية، التي أكدت ما لديه من إمكانات هائلة، وكم هم أهل لتحدي المخاطر ولمنازلة من يبدون من بعيد كجبابرة لا يقهرون.
2- المصالحة الوطنية الفلسطينية، التي انضوت في سياق عربي جديد، وكانت أولى ثماره في المجال القومي، وضمت جهود وقوى الفلسطينيين بعضها إلى بعض، معلنة نهاية الانقسام وسقوط موازين القوى التي ترتبت عليه وأفادت من وجوده، وبدء حقبة جديدة من سماتها الرئيسة نجاح السلطة الوطنية في توفير البيئة التحتية والإدارية اللازمة لقيام دولة وطنية سيدة ومستقلة على أرض الرابع من حزيران عام 1967، التي ستنال اعتراف أغلبية دول العالم الساحقة بشرعيتها، عند عرضها على الأمم المتحدة خلال شهر أيلول القادم، حتى أن إسرائيل تعطي الانطباع بأنها تواجه تحديات سترغمها على القبول بما كانت ترفضه دوما: الاعتراف بالحقوق المشروعة للفلسطينيين في دولة خاصة بهم، وأنها ستكون مجبرة على العودة بالتالي إلى فترة ما قبل عام 1947، عندما تم اتخاذ قرار دولي بقيام دولتين على أرض فلسطين التاريخية، لكن الجيش الإسرائيلي احتل القسم الأكبر من الأرض العربية منهما، وحال دون قيامها من خلال طرد القسم الأكبر من شعبها وملاحقته داخل البلدان العربية. ثمة منعطف مهم يحدث الآن، تلوح علاماته في أفق القضية، بعد لم شمل المنظمات، الذي يجب أن تعقبه وحدة وطنية حقيقية سيتعين كل شيء بفاعليتها من الآن فصاعدا، لا بد أن تتجلى في وحدة البندقية الفلسطينية: أساس العمل السياسي الوطني ودعامته الرئيسة، التي أظهرت الحركة المتناسقة للشباب الفلسطيني خارج وداخل فلسطين يوم 15 أيار كم يختزن من قدرات تعبوية هائلة وجاهزة للاستخدام، أثبتت مجريات الصراع المديد مع إسرائيل أنها لا تملك القوة الكفيلة بحسمه، وإلا لما استمر الصمود الفلسطيني طيلة قرابة قرن كامل، دون أن يتمكن جيش العدو من إنهائه.
تستعيد فلسطين وضعها الذاتي المطلوب في شرط موضوعي ملائم، ويتغير الشرط العربي والدولي لصالحها، ذلك أن النضال الوطني الفلسطيني كان طيلة عقود رافعة الواقع العربي الوحيدة، بينما كان العرب يتراجعون ويعانون مصاعب معقدة لا نهاية لها. ثم بدا وكأن قدرات فلسطين انهارت، وأنها شرعت تندرج في السياق الانحداري العربي العام، بدلالة انقساماتها في ضوء تجاذبات القوى العربية والإقليمية، التي عكست ابتعاد بعض أطرافها عن قضيتها وانخراطها في سياقات جانبية جعلتها تندرج في أطر وتشابكات ليست من صميم مصالحها الوطنية الحقيقية. واليوم، ينقلب هذا الوضع رأسا على عقب، ويصير الوضع العربي رافعة القضية، التي سارعت إلى التفاعل معه وإيجاد ترجمة وطنية خاصة له، عبرت عن نفسها في حركات الشباب المضادة للانقسام، التي اقتحمت حدود فلسطين وانفجرت داخلها. هذا التحول هو انقلاب نوعي في مجمل الصراع، لأنه سيضيف لأول مرة في التاريخ قوى عربية وازنة وحقيقية إلى قوة فلسطين الموحدة والضاربة، في رهان مشترك على أهداف واحدة تذهب جميعها نحو إقامة الدولة: رأس مال العرب في كفاحهم المستمر ضد العدو الغاصب ومشروعه الإجرامي، المستحيل الاستمرار، ما إن يستيقظ هؤلاء كما يفعلون اليوم.
سيخدم التطور الدولي بدوره مصالح فلسطين، التي ما أن تعمل في ضوء الطور جديد، وتربط بطرق صحيحة بين وضعها الذاتي وحاضنتها الموضوعية العربية والدولية، حتى تعجز إسرائيل عن التصرف بالطريقة التي دأبت على تبنيها: القوة والتخويف من جهة والاستيطان والتوسع من جهة أخرى. ثمة فرصة جدية لانتزاع المبادرة الدولية من أيدي الإسرائيليين، الذين يشعرون بخطر العزلة، ويعلنون صراحة خوفهم منها، ويحمل كثيرون منهم حكومة نتنياهو المسؤولية عن وقوعها، بل ولا يرون سبيلا إلى الخروج منها غير الاعتراف بالدولة الفلسطينية، التي ستقوم إلى جانبهم، بينما يتخبط اليمين الحاكم هناك في تصريحاته وأفعاله، ويعلن عزمه على شن هجوم مضاد على ما يسميه «الكسب الفلسطيني لتعاطف العالم».
هذه العملية السياسية، التي ترتسم ملامحها الأولى في واقع فلسطين والعرب اليوم، قد لا تقع غدا لكنها ستقع حتما ذات يوم غير بعيد، لذلك يمكننا رؤية سارية دولة فلسطين وهي تلوح في الأفق المنظور، فلنرفع أيدينا لتحيتها، بعدما طال انتظارنا لها، وتوقنا إليها، وأمضينا حياتنا متشوقين إلى رؤيتها!.
إن دولة فلسطين العربية، الحرة والسيدة، آتية دون أي شك. أما موعد قيامها فيتوقف على صدق نوايا قادتها وصدق وحدتهم وتوجههم المشترك، وعلى عمق التغير العربي الجاري، واقتناع العالم أن قوة إسرائيل لم تعد قادرة على الإمساك بالعالم العربي والتحكم بتطوره. ذكرت عمق التغيير العربي،لأنه العامل الذي سيقنع العالم بضرورة تغيير موقفه من إسرائيل وفلسطين، وسيجعله يفهم أن من الأفضل له تقييد أيدي الصهاينة والحيلولة بينهم وبين الإمعان في تحقيق مخططاتهم، لان مصالحه تتطلب ذلك، وإلا ضاعت تماما في عالم عربي موحد الإرادة الشعبية والقومية، وعازم على استعادة حقوقه، بينما يضيق أكثر فأكثر هامش التحرك، الضيق أصلا، الذي يتمتع الغرب عامة وأميركا خاصة به الآن.
دولة فلسطين آتية، هذا ما تقوله الوقائع، وما سيتحقق في واقع قد لا يكون بعيدا. عاشت فلسطين حرة عربية!.
kilo.michel@gmail.com