تعدد الفتاوى واختلافها واقع ليس جديداً؛ بل من لدن العهد الذهبي عصر الصحابة رضي الله عنهم، فلا جرم إذاً ألا يكون من خصائص عصر الإنترنت؛ ولكن هذا العصر أتاح مشاهدة اختلاف الفتاوى بلمسة زر؛ لذا بات من الضروري بيان الموقف من هذا الاختلاف، وجميل بتلك المواقع المشتملة على أيقونة الفتاوى أن تقدم للناس الموقف الصحيح من الاختلاف.
إن علماء الإسلام تناولوا هذه القضية في وقت مبكر في كتب الأصول وغيرها، وخلاصة قولهم في شأن العامي - وهو من لم يكن من أهل العلم الشرعي:
أنهم اختلفوا فيما يختار من أقوال المفتين، فبعضهم قال: يختار الأيسر من الأقوال والأسهل، وبعضهم قال يختار الأشد والأحوط، وقال آخرون: يختار فتوى من هو أعلم، وقيل من هو أورع وأوثق عنده.
وقد تأملت ذلك مليّاً حيث تتوالى الأسئلة عن الموقف من خلاف المفتين فانتهيت إلى أن أقرب معيار - وهو في مقدور كل سائل - ما قلته لبعضهم حين سألني عن ذلك: ماذا كنت فاعلاً حين يعرض لك أو لولدك مرض فتسأل طبيباً فيشخص لك المرض ويصف لك دواء، ثم تسأل آخر فيخالفه في التشخيص والدواء...؟ فمن تتبع؟ قال: من تطمئن له نفسي لخبرته ونصحه وكمال تشخيصه وغير ذلك....
قلت: كذلك فاصنع في اختلاف المفتين فاتبع من تطمئن له نفسك وليس ما يوافق هواك تماماً كحالك حين لم تتبع هواك في سؤالك للأطباء.
فقد يكون هواك فيمن يسهّل لك شأن مرضك ويخفف عليك الدواء ومع ذلك لم تتبعه لاطمئنانك للطبيب الذي يرى غير ذلك.
وجدير بهذا المقال في خاتمته الإشارة إلى ما يظنه البعض من حقه في التخيّر بما شاء من الفتاوى، ولعمر الحق ليس كما ظن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا جوز للعامي أن يقلد من شاء فالذي يدل عليه كلام أصحابنا وغيرهم أنه لا يجوز له تتبع الرخص مطلقاً.
وقال: من التزم مذهباً معيناً ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك ومن غير عذر شرعي يبيح له ما فعله فإنه يكون متبعاً لهواه وعاملاً بغير اجتهاد ولا تقليد فاعلاً للمحرم بغير عذر شرعي.
وقال الشاطبي: فكما أن المجتهد لا يجوز في حقه اتباع الدليلين معاً ولا اتباع أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح، كذلك لا يجوز للعامي اتباع المفتيين معاً ولا أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح، وقول من قال: إذا تعارضا عليه تخير غير صحيح.... إلى أن قال: ومتى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة فلا يصح القول بالتخيير على حال.
* أستاذ الفقه المشارك في كلية الشريعة
والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم
feqh@hotmail.com