.. إذاً فلتنفض هذه الأمة عن نفسها غبار التبعية المقيتة الذي طال مداه، ولتتجه بعزيمة ثابتة إلى حيث جعل الله سعادتها في دنياها وأخراها، وذلك أمر لابد فيه من تكاتف علماء الأمة العاملين، مؤيَّداً بدعم الحُكَّام الذين لن تبرأ ذممهم أمام الله إلا بهذا، وعند ذلك فقط ستنتهي المظالم التي تشكو منها الرعية،
وسيستريح الحكام من مطالبات رعيتهم، وما يصحبها من قلاقل قد تزلزل لاحقاً استقرار هذه المنطقة، فإن الأمور إذا ضُبِطت بميزان الشرع القويم فلن يكون بمقدور أحد - يعي معنى اتخاذ الموقف - أن يعترض على هذه العودة الكريمة بهذه الأمة إلى مصدر عزها وسؤددها.
وقد جرّب الناس في فترات خَلَت إطفاء نار الفتن والخصومات، من خلال رجوع الأطراف المتنازعة إلى إقامة حكم الله فيما شجر بينهم، فلم يكن بمقدور طرف أن يبقى بمنأى عن هذا الحل، لأن ذلك يجعله في مقام المعترِض على الشرع، وهو ما لا يريد العاقل أن يُحسَب عليه.
وهنا سيبقى المعترض بلا شكٍّ الطرَفُ الأجنبي الذي لا يريد لهذه الأمة أن تسلك هذا المسلك الرشيد؛ ليضمن استمرار هذه التبعية المفتوحة، التي يُسيِّر في ضوئها أوضاعاً كثيرة داخل هذه الأمة حسب ما يحلو له، فلا عجب أن يَقضّ مضجعَه أيُّ اتجاه بالأمة نحو سبيل رشدها، غير أن من المؤكد أن هذا الطرف لن يضير أمتنا بحال، إذا وُفِّقت لعزيمة صادقة مخلصة. والأطراف الأجنبية لا يُنتظَر منها - جزماً - أن تؤيد خطوة رشيدة في هذا السبيل، بل ينبغي - من الأساس - ألا يُلتمس منها رأي أو مشورة في شأن جليل كهذا، على حد قول الفرزدق:
ما أنت بالحَكَم الْتُرضَى حكومته
ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
ولا سيما وعبارة: (عدم التدخل في الشئون الداخلية) هي المقولة الجاهزة التي سيوجهها لنا ذلك الطرف لو أنا أبدينا أي تعليق على شأن يخصّه، فكذلك نقول: ليتركونا وشأننا، فلسنا بالقاصرين المحتاجين لوصاية أحد.
إذاً فطريق السلامة أمامنا جلية سالكة، وفيها حل قضايا بقيت معلقة شائكة، ولم يبق - بعد توفيق الله - إلا عزيمة الرجال وصدق المقاصد، لإقامة عدل حقيقي تنقطع به النزاعات وتنتهي عنده المطالبات، بل ويكون مضرب المثل بحول الله في عالم اليوم.
ومعلوم أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم لن يُقِيمها شيء كالعدل، وكل بديل سواه فهو نكبة على الطرفين معاً، مهما ادُّعي بوجود حاجة إلى الحزم، بسبب وضع طارئ غير مستقر، فإن الحزم لا يعني إهدار العدل، ولذا فإن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز حين استأذنه والي خراسان في استعمال السيف والسوط، لأن الناس بزعمه قد ساءت رعيتهم، فلا يُصلِحهم إلا ذلك، أجابه عمر بقوله: «كذبت، بل يصلحهم العدل والحق، فابسط ذلك فيهم، والسلام» (ذكره ابن عساكر في تاريخه 1/760)
وهذا العدل الذي رفع الله به ذكر عمر وأمثاله ممن قام به عبر التاريخ لا يمكن أن يكون إلا فيما أنزل الله، كما قال ابن تيمية رحمه الله: «على الحكام أن لا يحكموا إلا بالعدل، والعدل هو ما أنزل الله» ثم قال عن كتاب الله: «فالكتاب والعدل متلازمان، والكتاب هو المبين للشرع، فالشرع هو العدل، والعدل هو الشرع» (الفتاوى 35/ 361 - 366).
ومن أعظم العدل الذي جاء به الشرع ما يتعلق بضبط علاقة الحاكم بالمحكوم، حيث جاء فيه بالميزان الذي لا شطط فيه، من خلال ضبط قُطْبَي هذه العلاقة الأكبرين: (الحقوق والواجبات) فألزم الشرعُ الحاكمَ بواجبات فرضها عليه، لأنها حقوق للرعية، وفي الوقت نفسه ألزم الرعية بواجبات تؤديها؛ لأنها حقوق للحاكم.
ثم إن هذا الشرع العظيم أوضح ما ينبغي أن يكون عليه الحال فيما إذا قصّر الحاكم في أداء ما أوجب الله عليه، وذلك من خلال تشريع راقٍ منضبط، واضح المعالم، مُحدّد الدرجات، فيه الضمانة بإذن الله لإصلاح الخلل وإعادة الأمور إلى نصابها عند اختلالها، وهو ما سُمِّي شرعاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي يُعد من أجل المزايا التي تميزت بها هذه الأمة، ويعلم الله وحده كم أُصْلِح بهذا التشريع الحكيم من خلل، وكم استُرد به من حق، وكم رُفِع به من ظلم، في ظل أمن وارف، وكيان مستقر، وعيش رضِيّ، والموفَّق من الحكام والمحكومين من يعتبر بما وقع في هذه البلدان اليوم، فإن الله تعالى قد أنذرنا عاقبة التفريط في أمره، وتوعد عليه بوعيد عظيم يعيه ذوو البصائر، فقال سبحانه {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} (الأنعام 65)، قال ابن سعدي: «أو يلبسكم أي يخلطكم (شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض) أي في الفتنة وقتل بعضكم بعضاً، فهو قادر على ذلك كله، فاحذروا الإقامة على معاصيه، فيصيبكم من العذاب ما يتلفكم ويمحقكم (انظر كيف نصرف الآيات لقوم يفقهون) أي يفهمون ما خُلِقُوا من أجله، ويفهمون الحقائق الشرعية والمطالب الإلهية) (التفسير ص222).
فهذه النزاعات والقلاقل الداخلية قد نصَّت الآية الكريمة على سببها الحقيقي، بما يؤكد أنها نتيجة لمقدمات خاطئة سبقتها، وليست وضعاً فريداً فاجأ الناس، واحتاجوا معه إلى تلك التحليلات الشاطحة البعيدة، إذاً فليس ثمة مخرج لنا مما نحن فيه من هذه الأوضاع المتردية إلا بالرجوع إلى الله تعالى في الشؤون كافة، دون تشه أو انتقاء، وذلك يستوجب الرجوع إلى منهج السلف الصالح تحديداً، إذ هو المنهج الوسطي المبني على فهم خير القرون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، السالم من الإفراط والتفريط، لا الرجوع إلى تلك المناهج المتخلّفة التي رسّخت الخرافة واستعباد الأتباع، وكأنهم قطيع من الدوابّ، لا صنفُُ من البشر، كما أن منهج السلف الوسطي بعيد عن تلك المناهج المتحررة البائسة، المتفلتة من كل قيد، والتي ذاق منها الناسُ الأمَرَّين لفترات متعاقبة، ثم يُدَّعى بعد ذلك أنها هي المناهج الوسطية!
ولو رجعت الأمة اليوم إلى هذا النبع الصافي - منهج السلف - لما اقتصر توفيقها على صلاح أحوالها فحسب، بل لأصلح الله بها حال هذه البشرية التي تتردى في دياجير التخبط منذ قرون.
وإنما أناط الله حِمل هذه المسؤولية الكبرى بهذه الأمة، وهو سائل عما استودع من هذه الأمانة، كما قال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (الزخرف 44).
فإن وفقنا حُكّاماً ومحكومين لهذا السبيل القويم فلعل الله أن يخرج من هذه المِحَن التي حلت بديارنا مِنَحاً يعتدل بها المسار ويصلح بها الحال، فإن الله تعالى قد يُنعِم بالبلاء، ويتفضل بالعقوبة، كما ذكر ابن سعدي في تفسيره (ص592).
وذلك بالنظر إلى ما يترتب على البلاء، من الرجوع عن الأخطاء وتلافي التقصير.فأما إن خَطِئَ الناس هذا السبيل فإن عواقب ما نحن فيه قد تكون شديدة مُوحِشة، لأن الله سبحانه إذا جعل للعباد نُذُراً تَزَعُهم عما هم فيه من الخلل، ثم لم يَرْعَوُوا ولم يستفيقوا فإن أنواع المحن والنكبات تظل تتوالى عليهم {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (آل عمران 117).
ولله در الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، إذ قال في شأن قومه العرب: «كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العِزّ بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله» رواه الحاكم (207).
ولعَمْرُ الله إن مقولة الفاروق هذه لمنهج حياة، لو التزمه العرب اليوم لتغيرت أوضاعهم المعاصرة، كما تغيرت أوضاع أسلافهم الغابرة، فإن المبدأ الكريم الذي غيّر من حالهم الكئيب قبل البعثة موجود بحمد الله، محفوظ بحفظ الله: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (آل عمران 164)، ثبَّتَنا الله على ما امتن علينا به منه، وأكرمنا بصدق امتثاله، حتى نلقاه.
* أستاذ العقيدة المساعد بجامعة الملك سعود