حينما يُتوفى شخص مرموق في مجاله، يتسابق الناس لرثائه لأنه ترك فراغا في مضماره قد يأتي زمن لا يسد مسدّه سواه، ومع ذلك فكثيرا ما يلتهم الموت أناسا مشهورين ومحبوبين ،إلا أنه قد يتخلف البعض عن رثائهم رغم إعزازه إياهم أو إعجابه بهم،
نتيجة أنه لن يقول في وسط هذا الحشد من الكتّاب المؤبنين إلا معادا من القول مكرورا. وفي واقع الأمر أرى أنني إحدى هؤلاء الذين قد يكتفون بما قاله غيرهم فيمن رحلوا، مهما كانوا يحملون لهم من تقدير، لأن الأكثرية قد قالوا كل ما يجب قوله عن أولئك الراحلين الأعزاء، ولكن أحيانا يجد الكاتب ما يقوله بل ويجب قوله كأنه وصية للراحل يتوجب إيصالها للأحياء من بعده، وهذا هو حالي اليوم مع الشاعر الأديب عبدالله بن خميس الذي رحل مؤخرا عن دنيانا الفانية، والذي تشرفت بأن أكون مشرفة على رسالة دكتوراه تدرس شعره، للباحثة اللغوية التربوية هياء السمهري التي تتصل مع شاعرنا بصلة قرابة قريبة، وسبب سعادتي بهذا الإشراف أن ابن خميس أحد رواد الأدب والثقافة والصحافة في وطننا الأشم الذي لا ينفك ينجب الرواد في مجالات الدين والدنيا.
ومما لفت نظري في شعره رحمه الله العديد من القصائد يأتي في مقدمتها قصيدة شدتني وأثارت شجوني، لا سيما أنها عن الصحافة وكتابها وهو الخبير بها وبهم، تنفع أن تكون في مجملها وثيقة ضمير إعلامية، يقول فيها مبينا في مبدئها أهمية الصحافة لأنها مرآة الأمة، والتأكيد على ضرورة حريتها:
صدقوا ومأثورُ الهُداةِ هِباتُها
قالوا: صحافة أُمّة مرآتُها.
منْ لي بها فصحى الحقيقة طلقةٌ
فوق الرقيب تكون حرياتُها.
إلا أنه يبين أن هذه الحرية المطـــــلوبة لا تعني الفوضوية أو العبثية أو التبعية للغير، لأن الصحافة هي الممثلة للوطن وأهله جميعا، فيقول:
وطنية المنحى فلا شرقية
توحي بواغِل فكرها نفثاتُها
لا هذه نبغي، ولا غربيةٌ
يتحسس الدولارُ مرئياتُها
بعد ذلك ينتقل الشاعر للحديث المباشر عن بعض كتّاب الصحف الذين انحرفوا عن الهدف السامي للكتابة الصحفية، قائلا:
عقّوا الصحافةَََ واستباحوا صرحَها
ومضى بها نحو الجحود جُناتُها
فلها قميص بالشياتِ مرقّعٌ
يأبى التلون أن تُعدّ َ شياتُها
حزبيةٌ ما شئتَ أم فردية
قامت على مدِّ الأكفِّ حياتُها
ثم ينتقل ابن خميس -رحمه الله- من الإجمال إلى التفصيل منتقدا الكتاب الذين يخونون أمانة الكلمة المخولة لهم من شعوبهم، في سبيل مصالح خاصة، سواء أكانوا كتابا محليين أم من خارج البلاد، ويصورهم التصوير الذي يستحقونه حيث يقول:
فلَكَ الرضا مادام كفكَ سبطةٌ
أوْ: لا، فتعدادُ الحصى غلاتُها
شأنُ الذبابِ ترودُ فيما حولها
فتقودها لمرادها سؤاتُها
وفي الختام يبين شاعرنا النتيجة التي تؤول إليها الصحافة في ظل الكتابات النفعية الرخيصة، والتي تكون مضللة لسواها المنقادة خلفها انقيادا أعمى، فيقول وقد علا لغته الألم:
فقدتْ حرارة فكرها فاستسلمتْ
تملي عليها القولَ إيحاءاتُها
أين الحقيقةُ تستنيرُ بضوئِها
في أمة ضلَّ الطريقَ هداتُها
مادام أربابُ الصحافة دلّسوا
فمن المحقق أن تعبث غواتُها
هذا هو جزء من قصيدة خميسية أنشدها الشاعر بأسى وشجن، لعلها تكون نبراسا مضيئا في عالم الكلمة الإعلامية، يهدف بها إلى مراده من نزاهة العمل الصحفي وإخلاص الكتّاب لدينهم ووطنيتهم، مراعين أنها منبر وطني له تجلياته الجلية على المجتمع بأكمله؛ فما أشبه الليلة بالبارحة يا رائد الصحافة، ولكن حسبك وحسبنا أن نقول كلمة حق لله ثم للتاريخ، لنذكّر بأمانة الكلمة وما أثقلها من أمانة.
g.al.alshaikh12@gmail.com