جئت مكة حاجاً وأنا طفل صغير لم يبلغ الحلم، كان ذلك قبل ستة عقود ونيف، وما عشته وشاهدته في تلك الأيام الخوالي راسخ في الذاكرة كما النقش على الحجر،
وأنا اليوم أكتب في ربوع مكة هذا المقال بعد أن قضيت عمرتي ومشيت في الأسواق وأكلت الطعام وسكنت شواهق العمارات وعبرت الأنفاق والكباري وذرعت الساحات والمجمعات واستخدمت المصاعد والسلالم الكهربائية واستمعت إلى كل اللغات وشاهدت كل السحنات وشممت كل الروائح، ولقد اجتهدت ما وسعني الاجتهاد لتلمس تلك النكهة المحببة التي اختزنتها الذاكرة لمكة وشعابها ولذة طعومها ونقاء أجوائها وصفاء أرضها وهدوء أهلها وحميمية الغادين والرائحين، وهي نكهة قل أن تعود، وإن قبعت في قعر الذاكرة كأعذب الذكريات وأجملها.
لم أنقطع عن مكة وشعائرها ومشاعرها، ولكن هذه الزيارة شدتني بأمراس كتان إلى تلك الأيام الخوالي، حتى لقد تذكرت قدميّ الحافيتين وهما يغوصان في حصباء الحرم أو تسيخان في بطون الأودية. وحتى الغنم السائبة وهي تعطو إلى وارف الشجر وإلى الرعاة الحفاة العراة وهم يهشون بعصيهم على أغنامهم، لقد انتابني في هذه الزيارة شعور غريب لم أدر عن بواعثه، ولكنه غيبني بحيث تصورت نفسي طفلاً يذرع الأزقة والحواري، وابتلعت سرحات الذهن ضجة الهدم والبناء وأعمدة الرافعات ودوي المعدات وهي تستبق الزمن لإنجاز أضخم مشروع توسعة عرفته المشاعر في الجمرات والمسعى والأروقة والساحات، إنه شعور لم أتمالك فيه نفسي أمام التداعيات والذكريات العذاب، حاولت أن أقارن بين مكة اليوم ومكة قبل ستين سنة، لقد جئتها إذ ذاك وكل شيء على الفطرة التي فُطرت عليها الطبيعة والأشياء، فالجبال شامخة راسية لا يقدر أحد على نقبها أو هدها، والشوارع على ما هي عليه بصخورها وحصبائها ونوابتها، والأودية بالتواءاتها ونتوآتها وأشجارها المتدلية على حوانيها والدواب وهي تسرح وتمرح وتأكل مما أفاء الله به عليها من الأشجار الوارفة الظلال والكلاب الأليفة والقطط الطوافة كل ذلك يبهرني ويشد انتباهي، فما ألفت شيئاً من ذلك، فصحراء نجد تلال ورمال وبيوت طينية، لقد كان لمكة وشعابها نكهة خاصة تختلف عما هي عليه الآن، فهل إغراقها في المدنية أضاع تلك النكهة؟ أم أن أذواقنا ورؤيتنا للأشياء تغيرت؟ على حدّ: «وتصغرفي عين الكبير الكبائر» بحيث تكون الاشياء نسبية، إن هناك مسافة ضوئية بين المسجد الحرام قبل ستين سنة والمسجد الحرام اليوم، ولست بدعاً من الانطباعيين. لقد التقيت بزملاء وأصدقاء وأساتذة من أبناء مكة المكرمة ممن عاشوا بمكة في طفولتهم فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وقرأت لبعضهم أمشاجاً من الذكريات والمذكرات.
ولعل أقرب من لقيت ومن قرأت له أستاذنا معالي الأستاذ الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان، إذ كانت أحاديثه وذكرياته وانطباعاته عن مكة الأمس تكاد تتقاطع مع ما نحن عليه، وكتابه القيم «باب السلام» خير من يجسد لك تلك المشاعر، ويحدثك عن مكة الأمس بأسواقها ومكتباتها وكثير من أشيائها التي انقرضت وكاد يجهلها أبناؤها فضلاً عن الآفاقي.
كانت حجتي الأولى التطوعية قبل التوسعة الأولى في العهد السعودي، وهي المعروفة بتوسعة الملك سعود- رحمه الله- أذكر جيداً الأزقة والحواري والتصاميم الخارجية للمساكن مما يحيط بالحرم ويلاصقه، وأذكر مقام إبراهيم الذي تعلوه زخرفة خشبية وبناءه الذي يخنق المطاف، وأذكر إلى جانبه بئر زمزم في حجيرة ضيقة يتوسطها بئر زمزم مكشوفة للعيان واستخراج الماء المبارك من قعر البئر والرجال الأشداء الذين يمتحون الماء بالدلاء للحجاج المتحلقين على فوهة البئر ثم يريقونه في «طست» كبير يقع على حافة البئر المرتفع لأكثر من متر والشاربون يغترفون منه بأكواب نحاسية ليشربوا ويبللوا ثيابهم، وقد يضعون في الطست بعض العملات المعدنية هدية للماتحين. كان لطعم الماء نكهة ومذاق وللمنظر هيبة وجلال وللتصاميم روعة وجمال لما أزل أشعر بها كما لو كانت ماثلة أمامي، ولك أن تتصور الأروقة والمطاف والساحات والخدمات، والمسعى الذي تقوم على جوانبه دكاكين الباعة ويختلط فيه الساعون والمتسوقون بل تختلط الكلاب والقطط في قلب المسعى بحيث يركلها المارة بأقدامهم، وما كنا في نجد نعرف الكلاب الأليفة إلى حد النوم تحت عتبات الدكاكين لقد بهرتني تلك المشاهد، ولاسيما أنني طفل لم يبرح مدينته، ثم يفاجأ برحلة إلى مكة والمدينة مع حملة كويتية كان جدّي لأمي من أحد العاملين معها، وحملات الحج تختلف عما سواها من حيث الخدمات والتجهيزات وبطء التحرك وطول الإقامة ونصب الخيام وكثرة الحجيج من الرجال الطاعنين والنساء العجائز. كنت مع جدي على ظهر شاحنة الزاد والمزاد ترود للحاج وتحفظ ساقتهم، ترفعنا النجاد وتحطنا الوهاد وتعوق سيرنا الصخور والرمال والأودية والأشجار والسوافي والسقي والاحتطاب بحيث نقضي الشهر في رحلة كتلك وتمر الأيام والليالي ونحن في نزول وارتحال نستظل تحت الأشجار أو في المغارات، وفي كل منزل نحتطب ونستقي وننصب الخيام ونوقد النيران ثم لا نلبث أن نرحل لنحط رحالنا في مكان آخر، هذه الرحلة شدتني إلى كتب الرحالة الذين دونوا ذكرياتهم ومعاناتهم، وتكاد كتب الرحالة تشكل مكتبة علمية متعددة الفوائد لعل من أمتعها «مرآة الحرمين» في مجلدين، لقد كان من حسنات الملك المؤسس عبدالعزيز بن سعود تأمين طرق الحج وقطع دابر السراق الذين يخيفون الحجاج ويسلبونهم أموالهم وقد يزهقون أرواحهم، ولقد أدركت من يلهج بالدعاء والثناء على الملك عبدالعزيز ممن أدركوا قطاع الطرق، أما نحن فد ولدنا وعشنا في أمن وأمان، ولم ندرك الفوارق الجذرية بين الأمس واليوم وأين هؤلاء مما نشاهده ونعيشه في سفرنا البري والجوي وما نجده في المشاعر من التسهيلات والخدمات، ومع أننا ألفنا هذه الأوضاع الاستثنائية إلا أن الحنين لأول منزل لقد تاقت نفسي إلى شعاب مكة وأوديتها وجبالها وبطحائها وخيام الحجيج في (محبس الجن) ومياهها المجلوبة على أكتاف السقائين وأطعمتها الشهية وهوائها العذب وحياة أهلها الفطرية، لقد كان الحج على الإبل قليلا ولكننا كنا نمتع أنفسنا بمشاهدة قوافل الحجيج وهم يريحون ويسرحون ومن وراء قوافلهم الهدي وعلى ظهور الجمال متاعهم ونساؤهم، إنها مناظر جميلة تذكي في النفس التوله إلى ذلك الماضي الجميل، كانت مكة حرسها الله وشرفها جميلة بمبانيها المزخرفة وأسواقها الضيقة وحوانيتها الصغيرة وأطعمتها اللذيذة ومضارب الحجاج في أطرافها، كان كل شيء فيها طفوليا عفويا فطريا تشعر معه بالوداعة وراحة البال، أما اليوم وعلى الرغم من التوسعات الباهرة والتنظيم الفريد والخدمات الواسعة والتسهيلات ووفرة الزاد والمزاد فإن الإنسان قلق يستعجل الأشياء وينتهب الخطى، حتى لقد قضيت عمرتي وبارحت مكة إلى جدة في خمس ساعات. إنه القلق والتوتر والزحام والدولة- حفظها الله- في سباق مع الزمن تنوع في الخدمات والترتيبات وتمعن في التوسعات، لقد كانت الجمرات ذروة الأزمة والاختناق، وأصبحت الآن متعة الحاج وكان المسعى غولاً يحسب له الحاج والمعتمر ألف حساب وأصبح الآن بسعته وانفتاحه عشق الحاج والمعتمر ولما تزل الدولة تتحرف للمطاف ليكون هو الآخر في سعته وأمانه كالجمرات والمسعى، والتوسعة الأخيرة ستضيف إلى المسجد الحرام سعة وجمالاً وجلالاً، ومع ذلك فمكة بلد لن نبلغها إلا بشق الأنفس عمرها الله بالطاعة وغمرها بالأمن وقطع دابر المتآمرين على أمن الحجاج وراحتهم.