يقول جل من قائل عليماً: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (34) سورة إبراهيم.إن من لطف الله أن منحنا الحواس الخمس، لندرك بها ما حولنا في هذه الحياة، لأن من يرهف الحس، ويسبح فؤاده بجولة فكرية في آفاق كتاب الله الكريم، ويتمعن في رياضه المشرعة، فإنه سيجد العظة والعبرة، وسينفتح أمامه كتاب الكون على مصراعيه، ليرى بين سطور هذا الكتاب العظيم، صوراً هائلة من نعم الله التي لا تحصى.
بدءاً بالكون الفسيح الذي يراه على مد البصر، في السموات والأرض، وما خلق الله فيها من شمس وقمر ونجوم وأجرام، وليل ونهار، وماء ينزل من السماء فيه رزق لمن على ظهر الأرض، من إنسان وحيوان ونبات، وعوالم أخرى لا ندرك كنهها، وكل هذا داخل في قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (85) سورة الإسراء.
لأن ما يحيا على وجه الأرض فقوامه الماء، الذي جعل الله منه كل شيء حي، وهو سبحانه سخر كل شيء لراحة هذا الإنسان الذي جعله الله مستخلفاً في الأرض ليمتحن إيمانه وشكره، وليعرف حق الله عليه، ثم يتدبر في عجائب مخلوقات الله، في كل ما يحيط به، وما يرى منها في نفسه أكثر وأمكن، لأن ما يلتصق بالإنسان أقرب للعبرة، وأمكن في التمعن في السر.لكن البشر في جاهليتهم، لا ينظرون ولا يقرأون، ولا يتدبرون ولا يشكرون، حيث تطغى عليهم الإيثارات، ويضعف عندهم الإيمان، فيتحول عدم الشكر، إلى دفع بعض النفوس، لتجعل لله نداً، وهذا من أكبر مراتب الجحود، ومن أسوأ انحدار طبائع البشرية، حيث اعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أعظم الكبائر: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك) فالخالق الرازق، مدبر الكون، ومسخر ما فيه لمصلحة الإنسان كما أبان الله في سور عديدة من كتابه الكريم، ومن ذلك في سورتي الروم والواقعة، فهو سبحانه الذي أبدع الإنسان، وأعطاه العقل ليتدبر، والإحساس ليدرك، والحواس كلها ليعرف فضل الله عليه، فجدير به أن يوجه جميع أحاسيسه ليدرك المهمة التي خلق من أجلها، وليشكر المنعم المتفضل، ألم يقل سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (115) سورة المؤمنون.وإن أبسط العلاقات البشرية، بين الناس توجب على الإنسان، أن يبادل الإحسان بالإحسان وأن يجزي على المعروف بالشكر، حيث جاء الحث على ذلك، بين الناس لتستمر المودة، وليمتد حبل الوصال بين الناس، في مثل هذا النص الكريم، (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه) حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، ولذا جاء فى الحكمة استناداً على النصوص الشرعية، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: (من لا يشكر الله لا يشكر الناس).
والشكر لله ألزم، والاعتراف له بالفضل والإحسان أمكن، لأن إحسان البشر قليل، وإحسان الله عظيم وعميم، فكان من لوازم النفس البشرية، أن تعرف لهذا الفضل مكانته، وللمبدع الخالق عظمته وقدرته، وتسعى جاهدة للسير في الطريق الذي يرضيه، وتتباعد عن كل أمر نهى عنه شرعه، أداء لحقه، وتقرباً إليه ومهما بذلت النفس من جهد، أو قامت به من عمل، فهي لن تشكره سبحانه، حق الشكر، ولن تعبده تبارك وتعالى، حق العبادة.
ولكنه سبحانه إذا أعان الطائعين واستجاب للمترفين، فهو فضل أسبغه عليهم، ولا يكلف عز وجل نفساً إلا وسعها، حيث يجازي بالإحسان إحساناً وبالسيئات غفراناً.يقول صاحب الظلال، عندما مر بالآية السابقة: إن من معجزات هذا الكتاب أنه يربط كل مشاهد الكون وكل خلجات النفس إلى عقيدة التوحيد، ويحول كل ومضة في صفحة الكون، أو ضمير الإنسان ذلك الإنسان إلى دليل أو إيحاء، وهكذا يستحيل الكون بكل ما فيه، وبكل من فيه، معرضاً لآيات الله، تبدع فيه يد القدرة الإلهية، وتتجلى آثارها في كل مشهد فيه ومنظر، وفي كل صورة فيه وظل.إنه لا يعرض قضية الألوهية والعبودية في جدل ذهني ولا في لاهوت تجريدي، ولا في فلسفة (متيافزقية) ذلك العرض الميت الجاف، الذي لا يمس القلب البشري، ولا يؤثر فيه، ولا يوحى إليه، إنما هو يعرض هذه القضية في مجال المؤثرات والموحيات الواقعية من مشاهد الكون، ومجال الخلق ولمسات الفطرة، وبديهيات الإدراك، في جمال وروعة واتساق.والمشهد الحافل الهائل، المعروض هنا لنعم الله وآلائه، تسير فيه خطوط القدرة المبدعة، وفق اتجاه الآلاء، بالقياس للإنسان خط السموات والأرض، يتبعه خط الماء النازل من السماء، والثمرات النابتة في الأرض بهذا الماء، فخط البحر تجري فيه الفلك، والأنهار يحمل الأرزاق لمنفعة البشر، واستقامة حياتهم ثم يعود المنظر إلى لوحة السماء، بخط جديد، خط الشمس والقمر، فخط آخر، في لوحة الأرض، تتصل بالشمس والقمر، خط الليل والنهار، ثم الخط الشامل الأخير، الذي يكون صفحة الكون كلها ويظللها: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (34) سورة إبراهيم. إنه الإعجاز الذي تتناسق فيه كل لمسة وكل خط وكل لون، وكل ظل في مشهد الكون ومعرض الآلاء.
أفكل هذا مسخر للإنسان؟ أفكل هذا الكون الهائل سخر لذلك المخلوق الصغير؟ أفكل هذه المخلوقات البديعة الكبيرة والأنهار تجري بالحياة والأرزاق، في مصلحة الإنسان؟ والشمس والقمر مسخرات دائبان لا يفترقان والليل والنهار يتعاقبان.. أفكل أولئك للإنسان؟ ثم لا يشكر ولا يذكر: {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (34) سورة إبراهيم، وبعد ذلك يجعلون لله أنداداً، فكيف يكون الظلم في التقدير، والظلم في عبادة خلق من خلقه في السموات أو في الأرض. والناس يسمعون كلمة الرزق، فلا يتبادر إلى أذهانهم، إلا صورة الكسب للمال، ولكن مدلول الرزق أوسع من ذلك كثيراً، إن أقل رزق يرزقه الكائن الإنساني في هذا الكون يقتضي تحريك أجرام هذا الكون وفق ناموس يوفر مئات الآلاف، من الموافقات المتواكبة، المتناسقة التي لولاها، مع قدرة الله عليها، لم يكن لهذا الكائن ابتداء وجود، ولم تكن له بعد وجوده حياة وامتداد، ويكفي ما ذكر في هذه الآيات، من تسخير الأجرام والظواهر، ليدرك الإنسان، كيف هو مكفول محمول، بقدرة الله محفوف بعنايته وتوفيقه (الظلال ص 140 - 150).
فالإنسان لا يستطيع عد ما أسبغ الله عليه من نعم، سواء في نفسه، وما يصلح أحواله المعيشية، أو في بدنه وما تستقيم به صحته، أو ما يراه ماثلاً أمامه من عجائب قدرة الله، في هذا الكون الفسيح، من آلاء ونعم، وعجائب وأسرار لا يستطيع ابن آدم، مع قدرته في الحساب والإحصاء، والعد والتقويم، عن حصرها فضلاً عن قيامه بشكرها سواء بلسان الحال أو بمنطوق المقال.وقد توسع في هذه الدلالة، أبو السعود رحمه الله في تفسيره المسمى: إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، ومما قاله في ذلك، (وآتاكم من كل ما سألتموه) أي أعطاكم بعض ما سألتموه حسبما تقتضيه مشيئة الله، التابعة للحكمة والمصلحة، كقوله سبحانه: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} (18) سورة الإسراء.أو آتاكم من كل ذلك، ما احتجتم إليه، ونيط به انتظام أحوالكم، على الوجه المقدر فكأنكم سألتموه أو كل ما طلبتموه بلسان الاستعداد، أو كل ما سألتموه وقيل الأصل وآتاكم من كل ما سألتموه، وما لم تسألوه فحذف الثاني لدلالة ما أبقى على ما ألقي.
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}: أي لا تطيقوا حصرها ولو إجمالاً، فإنها غير متناهية وأصل الإحصاء أن الحاسب إذا بلغ عقداً معيناً، من عقود الأعداد، وضع حصاة ليحفظ بها، إيذاناً بعدم بلوغ مرتبة معتد بها من مراتبها، فضلاً عن بلوغ غايتها، كيف لا وما من فرد من أفراد الناس، وإن كان في أقصى مراتب الفقر والإفلاس ممن مني بأصناف العنايا، وابتلي بأصناف الرزايا، ألا وهو متقلب في نعم لا تحد ومنن لا تحصى ولا تعد، كأنه قد أعطي كل ساعة وآن، النعماء وما حواه حيطة الإمكان وإن كنت في ريب من ذلك.فقدر أنه ملك أقطار العالم، ودامت له كافة الأمم، وأذعنت لطاعته السراة وخضعت لهيبته رقاب العتاة وفاز بكل مرام وأن ما في الأرض، من حجر ومدر جميعه يواقيت عالية ودرر نفيسة ثم قدر أنه قد وقع به من فقد مشروب أو مطعوم في حالة بلغت نفسه الحلقوم.فهل يشتري وهو في تلك الحال، بجميع ماله، من ملك ومال القمة تنجيه أو شربة ترويه أم يختار الهلاك، فتذهب الأموال والأملاك بذل يبقى عليه.
ويتضح من هذا أن الله يفيض على الإنسان كل آن نعم لا تتناهى من وجوه شتى، فسبحانك يا رب ما أعظم سلطانك لا تلاحظك العيون بأنظارها، ولا تطالعك العقول بأفكارها، شأنك لا يضاهى وإحسانك لا يتناهى، من وجوه شتى، ونحن في معرفتك حائرون وفي إقامة مراسم شكرك قاصرون، نسألك الهداية والتوفيق لأداء حقوق نعمك (تفسير أبو السعود 3: 265).