مُبتدأ المشكلة؛ حين تطرأ على بعض ذواتنا مظاهرُ انفصامٍ بين ما تكتنزه عقولُنا من نصوص الآداب والنظريَّات الخُلُقية في مقابل فراغٍ وجداني كبير تعانيه عواطفُنا عند الخلاف والمباحثة.
ولطبيعةِ النفسِ الإنسانية في العَجَلَة والنقصِ والجَهَالة؛ يظلُّ هذا (الانفصام الخُلُقي) نزعةً إنسانيةً مألوفة.. وانتفاؤه هو ما يثير العَجَبَ والإعجاب؛ لمخالفته أصل الطبع والجبلَّة!
ولكن الأعجب من ذلك؛ تلك (الهالة النفسيَّة) المتوهَّمة، وذلك (التعاظم النفسي) المفضوح، والمغروس في طينةِ بعض بني آدم، والذي يدعُّ الإنسانَ إلى التسخُّط على ما قَسَم الله له من الرزق؛ في مقابل رضاه - بل وعُجْبه - بما قسم الله له من العقل!
الوقوع في هذا الخلل السُّلوكيِّ الدقيق من العُجْب بالعقل والرأي؛ يجرُّ إلى جمهرةٍ من الخطايا.. كالكبر، والجدل، والغرور، وتشبُّعِ الإنسان بما لم يُعْطَ، وسوء الظن، والانغلاق الفكري والوجداني، والتكلُّف، وتحقير الآخرين.. ومن ثَمَّ الجهل وحرمان العلم والحكمة!
وقد قيل لبقراط الحكيم: متى أثَّرت فيك الحكمة؟ فقال: منذ بدأتُ أُحَقِّر نفسي!
وقال أبو حيان التوحيدي: التصاغر (أي: التواضع) دواء النفس، وسجية أهل البصيرة في الدنيا والدين.
ويُشار قبل ذلك إلى ما رُوي عند أبي نعيمٍ وغيره: ((أخوف ما أخاف على أمتي ثلاثٌ مهلكات: شحٌ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه)). وفي الصحيح: ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)). وبين هذين الأثرين تناسبٌ في المعنى؛ إذْ لا يقعُ إنسانٌ في خطيئة (تحقير الآخرين)؛ إلا بعد أن يقعَ فيما حذَّر الله منه من البغي والإعجاب بالرأي، كما في قَصَصِ القرآن: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ }، ثم قال سبحانه كالبيان لسبب ذلك البغي: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}، فكانت عاقبتُه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ}.
وما أجمل تلك المشورة من سهل بن حنيف رضي الله عنه لقومٍ أتوه يستخبرونه، فقال لهم: (اتَّهموا الرأي)، وفي رواية: (اتَّهموا أنفسكم) كما في الصحيح. وهذه الحكمة النَّورانية يجب أن تُضمَّ إلى حكمةِ الفقهاء الشهيرة: ((رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب))، وهذه الحكمة تأتي في مقام الموازنة لشخصيةِ الإنسان وفكره بما يحفظُ عليه شخصيَّتَه وآراءَه ألا تذوب في شخوص الآخرين وآرائهم.. هي حكمةٌ داعيةٌ للأخذ بمنهج (الاستقلال الفكري) المعتدل؛ بما يصونه عن الانجراف في مظاهر التعصُّب الفكري، أو الانحراف إلى أنماط الإمَّعة، والتبعيَّة الفكرية الضيَّقة.
ومن بواعثِ (حكمةِ الفقهاءِ) هذه؛ الإيمانُ بأن الله جعلَ اختلافَ الناس في الآراء والتصوُّرات قضاءً كونياً، وحقيقةً مقدَّرة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ((اختلافُ قلوب بني آدم وعلومُهم وإراداتُهم وقصودُهم أعظمُ بكثير من اختلافِ صورِهم وألوانِهم ولغاتِهم)).
وإذا كان هذا الاختلاف قضاءً كونياً لازماً؛ فإن ذلك لا يُلغي وجوبَ السَّعي في إنفاذ قضاء الله الشرعي في الاجتماع والتعاون وتوحيد الكلمة، والمحاورة بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، والصبر على كل ذلك.
ومع وجودِ فئاتٍ لا تصبر على هذا السياق، ولا ترتضيه، وتتخذ لنفسها مساقاتٍ مُجانِبَةٍ للجادَّة الوسط يمنةً ويسرة، ومع وجودِ فئاتٍ أخرى تتَّخذُ من النقد الجَهُول النَّزِق وسيلةً للمكاسب الشخصية في مقابل نَمَطٍ آخر يتَّخذُ من المجاملاتِ الفارغة طريقاً للمصالح الخاصة على حساب المصالح العامة.. مع وجودِ كل ذلك؛ إلا أننا نوقِنُ أن الزبد سيذهب جفاءً، وسيبقى للناس ما ينفعهم.. سنة ربانية لا تتبدل.
إلا أن الأملَ والرجاء أن يبقى للناس - مع ما ينفعهم - صفاءُ قلوبهم، وتوادُّهم، وتعاونُهم، وطمأنينتُهم تجاه بعضِهم. يجب أن نتذكَّر دوماً أن هذه الطمأنينة الأخوية - حالَ الخلاف والمباحثة - هي مادة الأمن والطمأنينة الاجتماعية!
لقد تعلمنا - نحن معشر الأبناء - من (آباء ثقافتنا) فيما تعلَّمناه؛ أن أمتنا بحاجةٍ لكل جهد، واستثمارٍ لكل عمل، وأنَّ من واجباتنا الشرعيةِ والوطنية إيقافَ كلِّ ما يؤدي إلى استنزافٍ فكري، أو هدرٍ وجداني، وأنَّ كيانَنا الكبير - الذي مهَّدته العزائمُ الجسورة والنوايا الصادقة - بحاجةٍ لمزيد من أدوار التعاون، وواجبات التطوير، مما تنوء بحمله العصبةُ ألو القوة.
وإذا كنَّا - وسنظل - ننادي في مجالسنا الثقافية بالحوار والتواصل الثقافي مع شعوب العالم الأخرى بما يجلِّي صورتَنا الحقيقية للآخرين؛ فإن الحرص على التنادي بمثل هذه الدعوات الغيورة داخل (بيتنا) الثقافي الكبير، وتنظيمها، يجب أن يكون أقوى وآكد، فالحفاظ على رأس المال؛ أولى من تطلُّب الأرباح.
وهي بكل حال واجباتٌ متوازية.. إلا أن هذا الواجب الوطني الكبير، والدور الثقافي النبيل؛ هو ما نأملُ تركيزَ الضوء عليه في هذه المرحلة، وهو أيضاً ما نشهده الآن يتنامى في مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني... مع كثير من المطالبات بأدوارٍ نوعيةٍ أكبر، وكثيرٍ أيضاً من الدعوات بمزيد من الاستحقاقات وأدوار الريادة.
لم تزل في مجتمعنا - بحمد الله - دواعي الوفاق أقوى بكثير من بواعث الخلاف، وذرائعِه المبعثرة في أوعية الثقافة والاجتماع.. وفي ذات الوقت الذي نفرح فيه بالصور المشرقة للسِّجالات العلمية الهادفة، والحوارات الفكرية الهادئة؛ إلا أن المتابع الغيور يألم من (بعض) مظاهر المغالاة في الخلاف والجدل، والنقد العام والخاص. ويزداد الألم حين تُخدش المصالح العامة، ويُضار بمكتسباتنا الشرعية والوطنية باسم الحوار والنقد والمناقشة.. وذلك في كثير من أنحاء مشهدنا الاجتماعي.
ناحيةٌ من المشهد..
وإذا صحَّ أن يكون ما مضى (مبتدأً) لبعض مشكلاتنا الاجتماعية والثقافية.. وإذا صحَّ عند (النحويين) أن يكون للمبتدأ الواحد خبران أو أكثر.. فإن (لمبتدئنا) هنا أكثر من خبر.. و(تجديدُ الثارات) أحدُها.. والذي يُعَدُّ إحدى ثمرات القطيعة، والانغلاق الفكري والوجداني، وانعدام أسباب الفهم والتواصل.. سواء أكانت هذه الثارات ثاراتٍ قبلية، أو مناطقية، أو عِرْقية، أو دينية، أو فكرية، أو حتى طائفية!
وأخطر هذه الثارات؛ الثارات التي تُلبس بلبوسٍ ديني، أو يخلع عليها مسوح الوعظ!
وتزداد خطورة هذا النوع من الثارات؛ حين تتم استعادتها بصورة (جماعية) متكرِّرة.. تُؤجَّجُ فيها العواطف، ويُضارُّ بها البرآءُ الغافلون.
وإذا كان الناسُ في جغرافيَّتنا بحمد الله يُدركون القيمَ العليا للمواطنة، ومعنى حفظِ الحقوق الدينية والمدنية، ويَبْصُرُونَ بمفهومِ الحريَّات الواعية المنضبطة، والمقصد السَّامي من سياساتِ التعايش السلمي؛ فإن ذلك لا يعني مشروعيةَ بعثِ شيءٍ من هذه الثارات، أو السماح بالاستعادة الجماعية لها، فضلاً عن إسقاطها على رؤوس البراء، أو التعريض بمكتسباتنا الشرعية والوطنية، أو تعريضها للخطر!
ما نشهدُه في منطقتنا العربيةِ اليوم من تدخُّلٍ سافرٍ من (الصفويَّةِ الإيرانية) في شؤون المنطقة، ومحاولاتها - المخذولةِ بإذن الله - لاستغلال المذهب الشيعي والمناسبات الدينية لمدِّ (ولاية الفقيه) وتمرير مخطَّطاتها التوسُّعية، وإحداث الفرقة والتشاحن بين أبناء الوطن الواحد المؤتلف؛ كل ذلك يجب أن يُجَابه من الجميع بالرَّفض والبراءة.
وفي التأريخ القديم والحديث؛ نجد أنَّ محاولةَ بعثِ مثل هذه الثارات سببٌ لكثير من الفتنة والاضطراب.
ففي كتب التفسير والسيرة النبوية نجدُ كثيراً من الشواهد على ذلك، منها قصة شاس بن قيس اليهودي، وأنه مرَّ على نفرٍ من الأوس والخزرج في مجلسٍ قد جمعهم.. يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من أُلفتهم، وجماعتِهم، وصلاحِ ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فأمر (شاباً) معه من يهود، فقال: اِعمدْ إليهم فاجلس معهم ثم ذكِّرْهم يومَ بُعاث، وما كان قبله، وأنشِدْهُم بعضَ ما كانوا يتقاولون فيه من الأشعار. وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظَّفر فيه للأوس على الخزرج، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا، ولم يزل بهم حتى تواثب رجلان من الحيين، فتقاولا، فقال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن جدعة، وغضب الفريقان جميعا، وقالوا: قد فعلنا السلاح السلاح.. موعدكم الظاهرة. والظاهرةُ الحرَّة، فخرجوا إليها... فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه حتى جاءهم، فقال: يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً.. فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا.. وانصرفوا سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدوهم، فكان مما أنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ
وسنجدُ أيضاً من التأريخ المعاصر شواهدَ كثيرة.
ففي كتاب (هجومٌ على العقل) يقول مؤلفُه البرت آل جور- نائب الرئيس الأمريكي الأسبق - في بيانِ خطورةِ جانبٍ ممَّا نحن بصدده (ص56): (تنتقل قصص الخبرات المؤلمة والمآسي في العالم كله من جيل إلى جيل. وقبل أن يضيف التلفاز بعداً جديداً وقوةً لقدرة الحُكاة على استثارة الاستجابات الانفعالية؛ كان الوصف اللفظي الحي للخبرات المؤلمة التي عاناها آخرون تثير ردود أفعال قوية ولو بعد قرونٍ من وقوع الحوادث الأصلية... في أوائل صيف عام 1989 ذهب سلوبودان ميلوسوفيتش إلى سهول كوسوفو في الذكرى الست مئة للمعركة التي هزمت فيها الإمبراطورية الصربية في أوج مجدها. قال المتحدث الرسمي للحكومة إن مليوناً ونصف المليون شخص ذهبوا إلى هناك. أما التقديرات الغربية فذكرت أنهم كانوا مليون شخص، غطوا جوانب التلال ومنحدراتها للاستماع إلى خطابه. وقد أحيا ميلوسوفيتش المعركة التي دارت قبل ست مئة عام في خطابه. وفي أعقاب هذه الاستعادة الجماعية للخبرة المؤلمة مباشرة، بدأت حملة شرسة من الترحيل العنيف للكروات والبوسنيين وسكان كوسوفو على الأقل جزئياً بسبب وجود خبرة بالنيابة لحدث مؤلم جرى قبل ستة قرون... وإذا نظرنا إلى الصراعات في شبه القارة الهندية وسريلانكة وإفريقية وأيرلندة الشمالية والشرق الأوسط... سنجد عنصراً من عناصر سياسات التألم بالنيابة، والذكريات التي تتغذى على المآسي القديمة...))أ.هـ.
يقول علماء الاجتماع السياسي: (إن علم اجتماع اليوم؛ هو سياسة الغد).
ومن خلال ما نقرؤه من السوابق التاريخية، وما علمناه من سوالف الأحداث، ومن خلال ما نشهده اليوم في منطقتنا العربية من وعي الشعوب بضرورة اجتماعها، وتوحُّدِها، وإسقاط جميع الشعارات الحزبية والإقليمية والطائفية، وأن ذلك سببُ عزِّها وكرامتِها.. كل ذلك يحرِّضنا على التعاون والتكامل ومزيدٍ من الحوارات الوطنية في مختلف الاتجاهات، وعلى جميع المستويات، والحذر في هذه المرحلة خاصة؛ من بواعث الخلاف، والتي يحرص على إذكائها - مرَّةً بعد أخرى - أعداءٌ لنا وحاسدون.
عندما حدثت في مصر تفجيراتُ الكنيسة ليلةَ رأسِ السنة الميلادية؛ فاجأ المصريُّون أعداءَهم - وأعداءَ العروبة - بالوقوف صفاً واحداً، وبصورٍ مشرقةٍ من الالتحام الوطني. إلا أنَّ مَنْ كدَّرهم ذلك؛ عادوا بمكرٍ جديد، إذ تناقلت وسائل الإعلام خبرَ زواجِ مسلمةٍ من قبطي، ثم خبرَ إشهار قبطيةٍ للإسلام! فسقط من جرَّاءِ مسلسلٍ من التصعيد، والاضطرابات، والأحداث المتتابعة؛ قتلى ومصابون.
وفي بلادنا المباركة، فاجأ السعوديون العالمَ بيقظتِهم تجاه مصالحهم ومكتسباتهم، ووعيِهم حقيقةَ ما يُدبَّرُ لهم.. إلا أنَّ الواجبَ ألا يكونَ ذلك داعياً للسعوديين أن يضعوا (حِذْرَهم).. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ .
فمهما تغيَّرتْ عواملُ الزَّمانِ والمَكان؛ فإن قوانين المدافعة بين الخير والشر؛ (تُشبه في دقَّتِها وانتظامها قوانينَ الطبيعة الكونية). فلا حَيدةَ عن الحذر واليقظة عند معاملة العدو الحاسد: (كُلُّ العَدَاوَةِ قَد تُرْجَى إمَاتَتُها.. إلاَّ عداوَة منْ عَادَاك مِنْ حَسَدِ). ومن ذلك أيضاً قانون العدل الذي يورثُ الأمنَ والبركات العامة والخاصة، إذ الحسنةُ تقول: أختي أختي، وكذلك الظلم الذي يورثُ الخوفَ والاضطرابات العامة والخاصة، إذ السيئة أيضاً تقول: أختي أختي. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ((العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمرُ الدنيا بعدلٍ قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدلٍ لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يُجزى به في الآخرة)).
من الواجبات علينا - نحن معشرَ أهلِ هذه البلاد الطاهرة؛ أن نذكِّرَ أنفسَنا في كل حين بنعم الله علينا؛ إذْ كثَّرنا من قلَّة، وأغنانا من عَيلة، وجمعنا من فُرْقَة، وعلَّمنا من جهل، وأطعمنا من جوعٍ، وآمننا من خوف.