طائر الهدهد من أحب الطيور لدي، ربما لنسقه المختلف وصفات لم تتوافر إلا فيه، من أهمها مكانته العظيمة ومنزلته الرفيعة عند سيدنا سليمان عليه السلام ولذلك افتقده، وقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين، ومنها أن روحه لاتحتمل القفص والسجن والمطاردة، وربما
تفرط بمجرد القبض عليه، ومنها أنه لايمكن لك أن تراه إن أحببت فليس له مكان بين، يخرج فجأة ويختفي فجأة، لا أسراب لديه وغالبا مايكون وحده ،طائر مذعور ومتوجس ومستوحش من الكائنات كلها، ولايمكن أن تراه في كل حياتك إلا مرات معدودة لاتتجاوز أصابع اليد، طائر حزين وغريب تحمل هم الدعوة إلى الله جل وعلا، ولذلك لاتجد مخلوقا يكرهه، ويكفيه فخرا أنه جاء ببلقيس من اليمن السعيد إلى سيدنا سليمان عليه السلام في القدس وقصة عرشها وصرحها الممرد مفصلة في القرآن الكريم..
وقفت كثيرا أمام كلمة اليمن السعيد في أقاصي التاريخ الإنساني وقارنت سعادته بكل ماكان استثنائيا وجميلا وسعيدا في عالم العرب وكيف كان وعلى ماذا يكون في المستقبل؟
ووقفت على واقع مؤلم هذه الأيام لأن رائحة دماء الأطفال والشباب والشيوخ والنساء ملأت شوارعنا وغيرت لون أنهارنا وصبغت ربيعنا بالعفن والقرف، والأدهى من ذلك أن أرض الحضارات التي استوطنها التاريخ لخصوبتها وكثرة أنهارها وتفرد إنسانها أصبحت موطن الكوارث والدماء والاستبداد، ولاأدل على أرض الحضارات من اليمن الذي عرف ذات يوم باليمن السعيد بسبب الترف الذي تعيشه الكائنات في طبيعته الخلابة، ومن يرقب حاله اليوم يجد أنه لم يعد سعيدا ولامترفا، وقبله كان حال العراق الذي عرف ذات يوم بأرض السواد من شدة خضرته وتشابك أغصانه فلم تعد أرضه سوادا بعد حرثها بجنازير الدبابات والعربات وبساطيل الغزاة وتصحرها بسبب اليورانيوم المنضب الذي أحرق الأخضر واليابس ومكثت ذراته في ترابه لآلاف السنين، في صورة لاتختلف أيضا عن بلاد ما وراء النهرين إذ تبدلت طبائعها ابتداء من تغيير اسم جيحون وسيحون إلى جفافها المخيف، ولاعن غوطة دمشق التي تغنى بها العشاق والشعراء والنبلاء فتغيرت حالها أيضا وستنبت يوما أصابع من دفنوا بها في مقابر جماعية لايعلم عددهم الا الله جل وعلا، والحال لاتختلف عن حال تونس الخضراء التي هاجر إليها الهلاليون وعلى رأسهم أبو زيد الهلالي والزناتي خليفة وعظماء ذلك العصر إذ أصبحت جرداء من أي عود يستقر عليه طائر مهاجر، وكذلك لبنان الذي هاجرت إليه وفود المغرب لتستمتع بطقسه العذب وتتفيأ بظلال أشجار أرزه الباذخة أفسدته الطائفية والحروب والكوارث، وأخيرا ليبيا الحرة التي دفعت ثمن حريتها باهضا حتى شنق بطلها عمر المختار ولكن درسه الأخلاقي الذي أعطاه غريساني أكبر جنرالات الفاشية قسوة في تلك المرحلة مر ولم يفهمه القذافي ومن هم على شاكلته..
عالم رمادي أيها اليمن السعيد، أشبه بلون لوحة جرنيكا التي رسمها بيكاسو بعد تدمير تلك المدينة الإسبانية بطائرات الغزاة، ويبقى الأمل من تحت الرماد كطائر الفينيق الأسطوري وسيتحول هذا الفحم الذي يرسم وجوه اليمنيين في هذه المناجم إلى ألماس لأن اليمن بلاد الجنتين والحضارات ودار العرب والفلكلور والبن اليماني، بلاد استعارت اسمها من اليمن والبركة، أكرمها الله بجهة على يمين الكعبة فالإيمان يماني والحكمة يمانية، واليمنيون هم الذين نشروا الإسلام في الدنيا بسبب معاملتهم الحسنة للشعوب وتمدنهم العريق من أيام حضرموت الخالدة، فرضوا ثقافاتهم في أكثر البلاد، ولم يكن همهم جمع المال في تجاراتهم العالمية ،بل كان همهم تصدير الإنسانية للشعوب حتى أذهلوا كل من تعامل معهم فأسلمت بلاد وقارات وشعوب على يد اليمن مبدأ الهجرات ومنتهى السعادة منذ الأزل، ولذلك ظلموه حينما جعلوه مصدرا للقات وعمليات القاعدة ومرتعا للبطالة والتخلف وقطع الألسنة والسجون والقذائف، فاليمن أجل وأسمى من ذلك الوجه القبيح للإنسانية لأن اليمن يمن حسين المحظار وأيوب طارش ونسيم محمود وبلقيس وأروى ومأرب، يمن ممالك سبأ وحمير ومعين وحضرموت والعرب العاربة والمستعربة، يمن التضاريس والمروج الخضراء والحمامات الطبيعية والسياحة والمخطوطات والأصالة، ولذلك يستحق حياة أفضل ونظاما مستقرا والأزمة التي يعيشها اليمن السعيد هذه الأيام بلغت النقطة الحرجة ومفترق الطرق في الشوارع التي جرت بالدماء والهتافات والواجهات والرصاص وحالات الطوارئ وكانت تلك الشوارع تستقبل الزوار بالأمس بالفن والفلوكلور وعقود الياسمين والريحان والحرية التي لم تدرك أنها في خطر منذ أن رفض الأديب الألماني غونترغراس الحاصل على نوبل للآداب عام 1999م قبل تسع سنوات وسام الاستحقاق اليمني من يد الرئيس علي عبد الله صالح احتجاجا على مطاردة الكاتب الروائي الشاب اليمني وجدي الأهدل بسبب روايته قوارب جبلية وقال يومها الرئيس معتذرا: إن وجدي الأهدل حكم عليه بالسجن لأنه كتب أشياء تنتهك الأعراف.
غضب غراس واستوقف الرئيس قائلا إن هذا الكلام يؤذيه شخصيا لأنه سبق واتهم بهذه التهمة قبل حوالي خمسين عاما في ألمانيا.
رياح هوجاء تعصف باليمن وضباب كثيف حجب الرؤية ولايمكن أن يبددها إلا حب اليمن ومصلحة اليمن ومستقبل اليمن ورجال اليمن أحفاد بلقيس وأروى الصليحية الذين لايسمحون للقوارض أن تنقض سد مأرب مرة أخرى لأن الأرواح لم تعد قادرة على الهجرات إلى الشمال بعد أن أصبحت الحدود سياجا وتحولت الفئران التي حفرت قواعد سد مأرب في العهد السحيق إلى ماهو أخطر وأشرس في هذا اليوم، تهدد اليمن السعيد بالطاعون والهجرة والغرق ومشاهد تؤكد على أن الفترة الحالية تحتاج قرارا مصيريا من كل أطراف الصراع يستحضر أمامه وحدة الدولة ومصلحة الشعب من أجل فتيان صنعاء التي قال العرب فيها لابد من صنعا وإن طال السفر، ومن أجل مشاعر غزلان المكلا اللاتي رقص لهن حسين المحظار «سر حبي فيك غامض سر حبي ما انكشف.. لاتعذبني وإلا سرت وتركت المكلا لك.. إذا ما فيك معروف»، ومن أجل ظباء اليمن التي غنى لها أبوبكر سالم «ظبي اليمن يا حلاه ياروح من يهواك.. حاولت أنساك لكن ما استطعت أنساك.. أنساك كيف والحشا يا فاتني مرعاك.. يا ظبي صنعاء دموع العين قد قالت لنا..
يا ظبي صنعاء ليت الليالي لا تفرق شملنا»..
والله من وراء القصد
abnthani@hotmail.com