الأمن قيمة عظيمة ونعمة كبيرة من نعم الله تعالى على الكثير من عباده لا تقدَّر بثمن، ومهمّة الحفاظ على هذه النعمة ليست محصورة على رجال الأمن فقط، ولكن هذه المهمة منوطة بكل مؤمن يعلم أنّ الأمن من أعظم النِّعم التي امتنّ الله بها على عباده عندما قال {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} .. إنّ الأمن في الأوطان من أعظم النِّعم التي تفضّل الله جلّ وعلا بها على بني الإنسان، والرسول صلى الله عليه وسلم يبيِّن أنّ الأمن أعظم مطلب للمسلم في هذه الحياة، وأنه بحصوله كأنّ المسلم ظفر بما في الدنيا من ملذّات ومشتهيات وكل يريده في دائرة الحلال، فعن سلمة بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا». لأنّ اختلال الأمن تتغيّر معه الموازين والقيم والأخلاق، فلا مال يُستفاد منه بدون الأمن، ولا صحة ولا حياة تُرجى بدون الأمن، ولا استقرار ولا تطوُّر بدون الأمن، وفي هذا الجانب يقول الشيخ على الحذيفي (إنّ الأمن من كيان الإسلام ولا تظهر شعائر الدين إلاّ في ظل الأمن، وبالأمن تأمن الطرق، وتزدهر الحياة ويطيب العيش وتحقن الدماء، وتحفظ الأموال وتتسع الأرزاق، وتزدهر التجارات وتتبادل المنافع، ويندفع شرّ المفسدين والمعتدين، ويأمن الناس على الحرمات والحقوق، ويؤخذ على يد الظالمين والمخرِّبين، وضد ذلك كله تنزل بالمجتمع الكوارث مع ضعف الأمن أو انعدامه، فالأمن هو الحياة، وأعتقد أنّ الذين يحاولون عبثاً زعزعة الأمن والاستقرار في البلدان لم يفهموا حقيقة الأمن، لأنه لا يمكن للغة التكفير أو التفجير أن تبني دولة، أو تسود أمة ولنا في ما يحدث في كثير من البلدان أسوة مثل العراق وأفغانستان ولبنان وغيرها، والعاقل من اتعظ بغيره، فهل يعي كل مسلم هذه الضرورة الشرعية، فإذا أصبح المسلم لا يأمن على نفسه تعطّلت جميع المصالح الدينية والدنيوية، والأمن الذي ينشده ويطلبه الجميع (هو حاجة أساسية تنبع من استشعار الفرد بالاطمئنان والأمان والإبقاء عند التعامل مع الأفراد في الحياة الاجتماعية بعلاقات مشبعة ومتزنة مع الناس، وحيث يتم ذلك نتيجة الجهود المتواصلة من المسئولين في المجتمع، لتأمين ورعاية وسلامة الأفراد مادياً ومعنوياً ولتحقيق الاتزان الأمني على مستوى الفرد والجماعة واستقرار الحياة الاجتماعية)، وما دام الأمن غاية كحي، فإنّ مهمة الحفاظ عليه مسؤولية جماعية يجب على الجميع استشعار مسؤولياتهم من خلال علاقة تفاعلية مع رجال الأمن الذي حققوا نجاحات ميدانية كبيرة في شتاء المجالات، وخاصة في مجال مكافحة الإرهاب الذي أصبح محل تقدير العالم بأسره. وعلى الرغم من تعدُّد جوانب مفهوم الأمن، واختلاف أركانه إلاّ أنّ كل واحد منها مرتبط ارتباطاً وثيقاً ومباشراً بالآخر وهذا يعني استنفار الطاقات المجتمعية متمثلة في الأفراد والجماعات والهيئات والمنظمات والجمعيات المجتمعية لتأمين الأرواح والأعراض والممتلكات، عن طريق دعم ومساندة الأجهزة الأمنية الرسمية والنظامية لتحقيق الأمن والأمان للجميع وبجهود الجميع، باعتبار أنّ مهمة ضبط المجتمع وتوفير الأمن ليست مهمة الأجهزة الأمنية وحدها وإنما مهمة المجتمع ككل، وخاصة تحقيق الأمن الفكري الذي يُعد الأهم في مجال حفظ الأمن (حفظ العقول).. يقول الشيخ سعود الشريم إمام المسجد الحرام: (إنّ من أعظم النوازل أثراً وأخطرها تهديداً لاستقرار المجتمعات هي تلكم النوازل الفكرية والمدلهمّات الثقافية والحراك السياسي)، وصيانة الأمن الفكري يُعد من تخصص الأفراد ومؤسسات المجتمع المدني وهي المعنية بالمساهمة فيه، فوزارة الداخلية إلى جانب عملها الميداني الذي نجحت فيه، انشغلت بالجانب الفكري نتيجة تقصيرنا في هذا الجانب، وعدم قيام مؤسسات المجتمع بدورها، وقد تطرّق إلى ذلك الكاتب الأستاذ خالد المشوح حينما قال «ولعل الدافع من قيام الداخلية بهذا الجهد ناتج من خلو الساحة من أي جهود حقيقية من قِبل الدوائر المسئولة (الإعلام، التربية والتعليم، الشؤون الإسلامية)»، وقد شخّص هذا التقصير خبير الأمن الأول النائب الثاني ووزير الداخلية الأمير نايف وهو يقول (إننا مؤمنون إيماناً كاملاً بدور المؤسسات وسبق أن قلت هذا في عدة مناسبات بأنّ الأمن الفكري هو المطلوب ويجب أن ننظف الأفكار من المفهوم الخاطئ ولذلك نحن نعلق على مؤسساتنا الشرعية والاجتماعية والعلمية بأنها تعطي هذا الجانب الاهتمام الكبير ولكن أحب أن أقول إنه للأسف إلى الآن وهذا الجانب لم يواكب الجهود التي يبذلها رجال الأمن)، ويقول سموه أيضاً في كلمته في افتتاح المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب المنعقد في الرياض (إنّ الإرهاب هو - في واقع الأمر - ليس فعلاً فحسب، لكنه في الأساس نتاج فكر منحرف من الواجب التصدي له .. ولذا فإنّ المجتمعات بكافة مؤسساتها مسئولة عن مكفحته والتصدي له، فبقدر ما يقع على المؤسسات الأمنية من التزامات فإنّ المؤسسات الفكرية «علمية وإعلامية وتربوية» مسؤولة مسؤولية كبرى عن بناء المفاهيم الصحيحة, والقيم الإنسانية السليمة, وتحصين المجتمعات ضد الأفكار المنحرفة والأفعال الشريرة)، إذاً فدور الأفراد ومؤسسات المجتمع في حفظ أهم مقومات الأمن وهو الأمن الفكري أصبح مطلباً وضرورة مُلحاً لأنّ معظم الدراسات الاجتماعية والأمنية تؤكد أنّ الوقاية هي الأصل والمكافحة هي الفرع، فضلاً أن العمل الوقائي أقل تكلفة وأكثر فاعلية كما قيل (درهم وقاية خير من قنطار علاج)، لأننا نرى وبعد فترة طويلة من محاربتنا للإرهاب أنّ عدد المطلوبين والمقبوض عليهم في ازدياد، كما ظهر من تصريح المتحدث الأمني لوزارة الداخلية اللواء منصور التركي في التصريح الصحافي الأخير، (أنّ (5080) موقوفاً الذين أعلنت هيئة التحقيق والادعاء العام وضعهم ممن استكملوا مراحل التحقيق وانتقلوا إلى مرحلة المحاكمة أو انتهوا منها هم من بين الـ(5696) موقوفاً منهم (1325) غير سعودي ضمن العدد الإجمالي للموقوفين في القضايا الإرهابية)، مبيناً (أنّ إجمالي الموقوفين الذين لا يزالون يخضعون للتحقيق منهم (616) موقوفاً فقط. وأنّ عدد المقبوض عليهم منذ المواجهات الأمنية مع الفئة الضالة بلغ عددهم (11527)، مؤكداً أنّ 90% من الموقوفين استكملوا مراحل التحقيق والمحاكمة)، ومن هنا تأتي الدعوة إلى ضرورة التركيز على الجانب الفكري ودوره الوقائي والاستباقي هو المعني، فالقضاء على الإرهاب يستلزم القضاء على مسبباته وجذوره من خلال تشخيصه بدقة مع توسيع دائرة البحث عن الأسباب الحقيقية للإرهاب ودراسة شاملة للظروف النفسية والاجتماعية والأسرية حتى نصل إلى تجفيف منابع الإرهاب وإغلاق منافذه والقضاء على بؤره من خلال الجهود الفكرية التوعوية التي يفترض أن تقوم بها مؤسسات المجتمع المدني، فالنجاحات الأمنية الميدانية التي يحققها رجال الأمن البواسل لن تكتمل وتحقق هدفها في القضاء على فلول الإرهاب، ما لم يصاحب ذلك جهد فكري موازٍ، من خلال إيجاد إستراتيجية فكرية تربوية تشترك فيها جميع مؤسسات المجتمع المدني بالتنسيق مع وزارة الداخلية تساهم في حفظ الأمن و تحصين الشباب فكرياً ودينياً وثقافياً، حتى لا تكون جهودنا مبعثرة، أو ردّة فعل عند وقوع عمل إرهابي. عند ذلك نستطيع أن نحقق الأمن المنشود الذي يسمح للإنسان أن يؤدي وظيفة الخلاة في الأرض، ويطمئن على نفسه وقوت يومه.
باحث في الشؤون الأمنية والقضايا الفكرية ومكافحة الإرهاب
hdla.m@hotmail.com