كلّ البشــــر خطّاؤون، وخيرُهم الأوّابون. وهذا يعني أن الخطأَ سمةٌ بشريةٌ لا غلبةَ عليها ولا مفرَّ منها؛ لأنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بدينامية السلوك الإنساني وتغيّراته سلباً وإيجاباً؛ لذا، قِيلَ ويُقال إنّ مَنْ لا يخطئُ لا يعمل، وأضيف إلى ذلك القولَ بأن من لا يُخطِئُ لا يصيب! والحكمةُ هنا لا تكمن في تجنّب الخَطأ، وقايةً منه أو ردْعاً له، بل لأن ذلك قد يُفرز حالةً من القلق لدى صاحبه خوفاً من تكرار الخطأ، وقد يتحوّلُ هذا (الخوف) إلى كابوس معيقٍ للإنجاز ومحبطٍ له!
***
وأسوق هنا مثالاً لظاهرة تعلُّم المرء منا لغةً غير لغته الأم، كالإنجليزية مثلاً، إذ يتعثّر لسانُ المتعلم وقلمُه بادئَ الأمر مراتٍ ومراتٍ، وهذا أمرٌ مسلَّم به، لكنّ رفضَ الخطأ أو استنكارَه بعد أول محاولة.. هو (الخطأ) عينُه، حين يُحْجِمُ صاحبُه عن تكرار المحاولة خوفاً من استهزاء الآخرين به، أنْداداً له أو غُرباء، أمّا إنْ أصرّ هو على (استثمار) أخطائه في تعلُّم اللغة، مفرداتٍ وتركيباتٍ وإملاءً، فإنه لا بد أن يُتْقنَها بدرجة معيّنة عبر مشْوارٍ طويل جُهْداً وزمناً! وهذا دليلٌ على أن الخطأَ الناجمَ عن الاجتهاد جزءٌ من آلية التعلُّمِ وحصَادِه، شاء صاحبُه أم أبى!
***
والحديثُ عن تجربة الخطأ في تعلُّم اللغة تحديداً يعيد إلى الذهن ذكرى شخصيةً قبل نحو خمسين عاماً حينما ألحقني سيدي الوالد - رحمه الله - بمدرسة داخلية في لبنان تخضع لإدارة أجنبية؛ مِمَّا حتّم عليّ دراسةَ مبادئ اللغة الإنجليزية كتابةً وحديثاً، كانت بداياتي متعثَّرةً في هذا الصوب، كما هو متوقّع، ولكن سخريةَ بعض الزملاء اللبنانيين وسواهم من زميلهم الجديد الوافدِ من قلب جزيرة العرب فجَّرت في قلبي آهاتٍ وعبراتٍ، وكدتُ بسبب ذلك أغادرُ لبنان عائداً إلى المملكة لولا رأفةِ مدير القسم الداخلي وزوجته بي (المستر والمسز ليتل)؛ فاستضَافاني في جناحهما الخاص بمبنى السكن الداخلي وهدَّآ من روعي بحنَانِهما، بل تطوّعا بمسَاعدتي في تعلّم (أبجديات) اللغة الإنجليزية وحلَّ بعض واجباتها، مستخدمَيْن لغةً عربيةً (مكسّرة)، لكنها رغم ذلك كانت مفهومة، وقد أسْهَمتْ هذه اللفتةُ الإنسانيةُ فـي (تلطيف) الأجْواء مع زملاء الدراسة، فلم أعُدْ أُعير سخريتَهم اهتماماً، وزاد رصيدي من الحماس لدراسة اللغة حتى تجاوزتُ اختَباراتِها بتفوّقٍ خلال بضعة أشهر.
***
وبعد:
أود أن أختمَ هذه المداخلةَ القصيرةَ بعددٍ من الوقفات التأملية أوجِزُها في الآتي:
الوقفة الأولى
علينا ألاّ ندَع (الخوفَ) من الخطأ يُرهبُنا، ويصرفُنا عن أداء عَملٍ ما، مع بذْل قُصَارى الجهد اجتهاداً لتجنُّبه، فإذا وقع، لم نُقِمِ الدنيا ونُقْعدها بسببه، بل (نسْتثمرُ) الخطأَ، سبباً ونتائجَ، كيْلا نُلدغَ من جحره مرة أخرى، وبمعنى أكثر دقة: الخوفُ من مواجهة الخطأ.. هو الخطأُ الأكبر!
***
الوقفة الثانية
علينا أن ندركَ بوعيٍ كاملٍ مشقةَ إدراك الكمَال أو جزْءٍ منه في كلَّ ما نفعل، دون أن نتعرضَ للخطأ لسبَبٍ اجتهاديّ، وهذا الوعيُ يصرفُنا للبحث عن سُبُل الغلبةِ عليه إنْ لم يكنْ فـي المرة الأولى ففي التالية أو التي تليها، عندئذٍ، لن يتعذَّرَ علينا بلوغُ الصوابِ كلّه أو جلّه فيما فعلنا اعتماداً على تجَارب المحاولات السابقة، ولنتذكَّرْ أنّه ليسَ مُهمّاً أنْ يخطئَ المرءُ منا مُجْتهِداً أو يجتهدَ مُخْطئاً، لكن أن يَعترفَ فـي كلتا الحاليْن بأنه أخَطَأ، ثم يمْضِي في تصْويب الخَطأ وصُولاً إلى الصواب!
***
الوقفة الثالثة
دعاء
اللهم إننا لا نملكُ العِصْمةَ من الخطأ، لكننا نسألُك أن تهبَنا القدرةَ على التَّمييزِ بين الصواب وضدِّه، وارزْقنا يا رب نعمةَ الصَّبْر كيْلا يُشْعلَ الخطأُ في نفوسنا جذوةَ الإحباطِ وينزعَ منها فضيلةَ الثقة فنفْقِدَ كلَّ شيء ولا ندركُ شيئاً!