لم يعد الغلاء لدينا مساراً عالمياً أو أمراً عابراً أو محدوداً، بل تعدى كافة التوقعات لأنه عمّ كل شيء بدرجة غير معقولة، والذي يثير خوف الناس وغيظهم في ذات الوقت هو أن أكثر من قاد حرب الغلاء هم الذين يتلقون دعماً من الدولة أمثال المدارس الأهلية والمستشفيات التجارية، فصارت كمن ينهب من الطرفين ويلعب على الحبلين.
ناهيكم عن مافيا العقار التي تلتهم الأخضر واليابس، وتلعب بالنقد لعباً لا هوادة فيه، حتى كاد الريال أن يفقد موقعه الاقتصادي ويعود أدراجه للخلف ويختفي مثلما اختفت عملة القرش المعدنية، بل كما اختفت عملة الهللة الصفراء موغلة القدم، التي كم تباكى عليها الأجداد حينما رحلت عن دنياهم رغم بقاء ذكرها العطر إلى الآن.
أمّا السلع التموينية فهي الشكوى الدائمة للناس والإعلام، ومع ذلك فآذان بعض المسئولين والتجار استمرت مملوءة عجيناً وطيناً، فلماذا يحدث كل ذلك مع سبق الإصرار من أولئك المتاجرين بالأرزاق والأقوات؟ هذا على الرغم من أن الدولة زادت الرواتب وعملت العديد من الإصلاحات، لكي يستطيع المواطن صاحب الدخل المحدود أن يجد له ضروريات حياته وحياة أطفاله، ولم تزد الدولة الرواتب لكي يزداد المتورمون تورماً، وأصحاب الدخول اللا محدودة أموال سحت من هؤلاء المساكين، فمعنى ذلك أن هناك من يهدم حتى قبل أن يكتمل البناء؟! لقد رصدت بعض المواقع الموثوقة أسماء محلات كبرى عديدة بادرت بزيادة الأسعار منذ إعلان الأوامر الملكية حتى قبل أن تُصرف الرواتب، رغم أن مبيعات هذه المحلات لا تنزل عن مرتبة فُحش الغلاء من بدايتها، لذا يرى الناس أن هؤلاء يمكن أن يحاكموا بتهمة الخيانة للدولة والدين والمجتمع، لأن الإصلاحات جاءت من أجل استقرار الوطن ورفاهية سكانه، بينما هؤلاء الجشعون معول هدم لكل الجهود الوطنية المخلصة، أفلا يستحقون أن يلقوا جزاءهم الرادع إذا لم يتراجعوا؟ المشكلة الأساسية أضحت إذن عملية نهب وسلب، وكأن الحياة ستدوم لأمثال هؤلاء الجشعين المنتشرين في كافة المجالات الحيوية، وكل واحد منهم يرى أنه ليس مخطئاً أو ليس هو المخطئ الوحيد، والغريب أننا نعلم أن هؤلاء المنتفعين من الذين تكمن في قلوبهم ولو بعض الخشية من خالقهم الذي هدّد أمثال هؤلاء بقوله تعالى: وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ، وهذه هي صفة كل تاجر جشع، يلتف على المشترين التفاف الدهاء والقسر، ولا تعني الآية بهم البائعين فقط، إنما تشمل أيضاً كل الذين يملكون السيطرة على الناس فيما يريدون، في جميع المجالات مستغلين حاجتهم إليهم، وذلك كما وردت في كتب التفاسير وأسباب نزول آيات القرآن العظيم الذي هو دستور كل زمان ومكان.
ثم تُتمم الآية الكريمة توضيح العقاب لهم باستفهام إنكاري يهز المشاعر ويوقظ القلوب، حيث يقول جل شأنه أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، فإذا كان هؤلاء وأشباههم في كل العصور لا يهابون الناس أو يستحيون منهم، فإن القرآن يذكّرهم بالخوف من عقاب خالقهم الذي لا يرضى بظلم أحد لأنه حرَّم الظلم حتى على نفسه، لاسيما أن حقوق العباد أشد عند الله من حقوقه هو سبحانه، فهذه السورة نداء سماوي إذا عجز النداء الأرضي عن ردع النفس الأمّارة بالسوء، لتخليصها من حمولتها المثقلة لها، المتراكمة على كاهلها من حقوق الناس.
لقد وصل الناس مؤخراً لحد كبير من القنوط من أطماع البشر وعدم وجود ردع لهم، فهناك من يقتل الفرحة قبل أن تدخل القلوب، وينهب القوت القليل قبل أن تهنأ الأيدي بقبضه، وكل شيء عندنا يصل لمستوى فاحش من الغلاء لا يمكن أن ينزل سعره بعد ذلك أبداً، حتى مكاتب الاستقدام أعلنت سوقها السوداء التي لم يسبق لها الوصول إلى حدودها الخيالية فيما مضى، مستغلة اقتراب شهر رمضان، مع أن سوقهم كانت في كل الأوقات أحلك من السواد، فلماذا نحن الوحيدون الذين يتقافز الغلاء لدينا في جميع المجالات والسلع، ولا يمكن أن ينزل بعده أبداً؟! إن هذا هو التطفيف حقاً فما هو العقاب؟
g.al.alshaikh12@gmail.com