نتحدث كثيراً عن ضرورة الهوية وعن أهمية ظهورها كعلامات نتميز بها بين الأمم، لكن ذلك لا يعني أن تكون الهوية أداة سلب للآخر أو لصفة الاختلاف التي هي إحدى سنن الحياة الكونية، إذ لا يمكن للمرء أن يكون صورة كربونية من أبيه أو أخيه، أو من تلك الصورة التي تحاول أن تفرضها بعض الرؤي المتطرفة، فالاختلاف الذي يحتفل الغرب بفلاسفته، ومنهم: ميشيل فوكو وجيل دولوز وجاك دريدا، كان بمثابة الثورة على تلك النمطية التي كانت تفرضها الكنيسة من خلال الاستبداد الديني، أو الأحزاب النازية والفاشية عبر نظرية الهوية المتفوقة.
لا تزال محاولة فرض صورة موحدة للمسلم الملتزم عالقة في ذهني منذ الصغر، فقد كان منظر الشكل الموحد واللغة المتوافقة مع المظهر العام تثير اهتمامي في ذلك الحين، وكان هناك دعوات منظمة لجر المجتمع إلى رص الصفوف في متلازمة موحدة، وفي هوية شديدة التطابق، وبعد مرور عقدين من الزمان تضاءل ذلك المد، وعدنا إلى طبيعة البشر وفطرته التي تسمح بالاختلاف بين جيل وجيل، وبين شخص وآخر، وتقبل بأن الهوية تسمح بالتعددية كأحد وجوهها المتطورة في العصر الحديث، ولكن ذلك لا يعني تراجعها في الخطاب الديني المتطرف، وقد نحتاج إلى عقود أطول من أجل تجاوز تلك الدعوة.
لكن لازلت أتساءل: من أين استقت تلك الظاهرة فهمها المستبد والموحد لمصطلح الهوية، وذلك لأن الدين الإسلامي، كما طبقه الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة، بدأ في أول الأمر بترسيخ ثقافة الاختلاف، فدستور المدينة كان مضمونه يؤكد على ذلك المنهج، وقد نص على عبارات لا يمكن أن تمر مرور الكرام على علماء الدين، ومنها على سبيل المثال:(«وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأَثِم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته») ،»(وإن بينهم النصر على من دهم يثرب)..
وأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،(وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة)، (وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين)، («وإن بينهم النصر على من دهم يثرب) ،(وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة)، (وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم)، وفي ذلك تأكيد أن العلاقة بين الطوائف تبقي في طور النصح بدون عدوان، وأن اختلافهم لا يعني العداوة والاقتتال، وجاء في هذا الأصل: (وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه)، ،أيضاً ووجوب نصرة المظلوم ،(وإن النصر للمظلوم.، وحق الأمن لكل مواطن:(إنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى)، وجاء فيها احترام أمن الإنسان (وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس).
كان دستور المدينة يُقر بثقافة الاختلاف الإنساني، ويؤكد على التعاون المشترك بين الفئات والطوائف على احترام الوثيقة، والمشاركة في الدفاع عن الوطن، أو مجتمع المدينة ضد الأعداء، وقد لا أجد من يتفق مع هذه القراءة، فقد مرت أكثر من خمسة عشر قرنا عن أول دستور يعترف بالتنوع والتعددية في الهوية، ولا زال الخطاب الديني لا يعتبره مرجعية لاحترام حقوق الإنسان والدفاع عن حق الاختلاف، فالخطاب الديني الحالي -إلا ما ندر- مازال يقدم قراءات أحادية لحضارة الإسلام العظيمة، ويحاول قدر الإمكان أن يفرض رؤية موحدة للمواطن المسلم، بينما تجاوز ذلك الغرب وصار يسمح للمسلمين أن يعيشوا في أوطانهم بعد انتصار ثقافة الاختلاف وحدوث التغيير على قوانين الاستبداد في القرون الوسطى.
لعل تأثيرات الخلافة العثمانية ألقت بظلالها على العقل العربي المسلم، فقد حارب العثمانيون الاختلاف، ووصل استبدادهم لمحاربة اللغة العربية في موطنها، ثم خرجوا من ذلك عبر قومية أتاتورك الآحادية التي لازالت لا تعترف بالأكراد كقومية، ليستقدمها العرب، ويحاولوا فرض القومية العربية على الأقليات، وكانت الكارثة، ومن تلك النافذة انتقلت محاربة هوية الاختلاف والتعددية إلى الصحوة الإسلامية، والتي طالبوا من خلالها بفرض هوية موحدة، تصل إلى الزي الموحد والرأي الواحد، برغم من أن العرب قبل الإسلام وبعده كانوا أقرب لثقافة التعددية والاختلاف من الاستبداد وفرض الرأي الموحد.