احْتُضِرَ الأمسُ على ناظريّ.. وارتعشت في شفتيّ الذكريات تهوي بي وهي حيرى على انتفاضة الموت.. كأنما مسَّ رؤاها صدى الصمت.. ولم يبقَ لي من بقايا الأمس إلا دموع وآهات وحديث الذكريات. أتلفتُ أسألُ الأبد المجهول عن حاضري وما هو آت.. فإذا لفَّنِي الطريق وتاهت الدنيا.. تلاشت رؤاي وأنا أردد ما قال الصابرون {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } وكيف عزائي في أم فهد لؤلؤة البيت أعفُّ البشر.. وحبي لها الأبدُ المختصر.. وكنتُ إذا زُرتها رجعتُ وفي قبضتي شعاع القمر.. عزائي لنفسي وللعم أبي فهد الكريم الأغر.. كأني أراه على البعد كالمُنكسر.. أُعزيه.. أواسيهِ وفي الموت أشدُّ العِبر.. طريق سنسلكهُ أجمعين وليس يُفيدُ الأسى والضجر..
عزائي لأبنائها إخوتي بناتاً.. وأبناءً.. وأحفاداً.. وتلك التي هي عندي أغلى البشر.. حبيبة قلبي.. رفيقة دربي.. أرى ببصيرتها ما خفى واستتر.. أم فيصل ومن غيرها..
أرى بصحوة عينيها الندى والمطر.. أزفُّ المشاعر.. بلوعة شاعِر..
أيا ناعِياً قد سار أشأمُ طائرِ
فأغرقَ قلباً طارَ خلفَ المحاجرِ
ويا مخبراً قد كُنتَ أشأمَ مُخبرٍ
كرهُتكَ حتى مخبراً بالبشائرِ
شَخصت بروحي حائراً متطلعاً
كأني تولَّى مَدمعي كُلّ ناثرِ
أشمُّ رِياحَ الموتِ وهي كريهةٌ
تصارعُ أنَّاتِ الغريبِ المسافرِ
فليسَ سوى طعم المنية في فمي
كأنّ المنايا شُرَّعاً في خواطري
أبحتُ لها دمعي وأنهبتها دمي
وقد كُنتُ بالأحزانِ في الناس ساخرِ
بلؤلؤةِ الدنيا وخير نسائها
فُجِعْتُ ففاضت بالدموع محاجري
لقد خانني فيها الردَّى مُتمنطقاً
بإقدام موتورٍ وفتكةِ ثائرِ
أغالبُ فيك الموتَ والموتُ غالبٌ
وآجالُنا قد عُلِّقتْ بالمقادرِ
دهاكِ الرَّدى بعد الصراع معانداً
فتبًّا لهُ خصماً عنيداً وغادرِ
شددتِ على كفيّ ولاحت شُعاعَةٌ
بِعَينَيكِ حتى فاضَ أسَودُ ناظري
وَزوّرتُ من دمعي الحبيس ابتسامةٌ
كأنَّ الأسى في ظاهري غير ظاهرِ
بكيتُ وأبكيتُ الجمادَ ومن معي
وكانت قناتي لا تلينُ لكاسرِ
وقد كُنتُ جَلداً لا يَراني شامتٌ
على رغمهِ إلا على الهولِ صابر
فديناكِ لو أن الرَّدى يقبلُ الفِدى
لكانَ إفتدانا للأُلى بالأواخرِ
رَحلتِ وخلَّفتِ الأسى في قلوبنا
وفيكِ يُحبُّ الحيَّ أهلُ المقابرِ
وأُؤمنُ بالأُخرى ولا أجهلُ الرَّدى
ولكنني قد صِرتُ مثلُ المكابرِ
كفاني عزاءً أنني مُتأمِلٌ
فِراقكِ لا يَعدُو فِراقَ مُسافرِ
فيا أُمَ فهدٍ والأسى في قلوبنا
يَعزُّ علينا أن تُرَي في الحفائرِ
فَلَم تَبقَ عَينٌ لم يَسِلْ طَرفُها دَمٌ
ولم يبقَ قلبٌ ليس سُعرةُ ساعرِ
إلى جَنةِ الفِردَوسِ غير ذَمِيمَةٍ
برحمةِ من نَرجوهُ للذّنبِ غافرِ