كانت المفاجأة في أول انتخابات بلدية يقرها مجلس الوزراء، وتدعو لها وزارة الشؤون البلدية والقروية.. قبل ست سنوات -حتى وإن كانت على طريقة انتخابات الغرف التجارية والصناعية (50% منتخبون و50% معينون)- أن أعداد «الناخبين»..
أو نسبة المشاركين في تلك الانتخابات.. لم تكن بالقدر المأمول جماهيرياً، بل ولا حتى المتوقع حكومياً.. في بلد يُدعى فيه مواطنوه ولأول مرة في تاريخهم الحديث لانتخاب ممثلين عنهم لإدارة شؤون مدنهم، والتفكير في حاضرها، والنظر بعين المعرفة والخبرة.. في مستقبلها، بينما كانت أعداد «المرشحين» -في المقابل- الذين تقدموا للفوز بمقاعد العضوية في تلك المجالس.. أكثر بكثير من المتوقع.. وربما أضعافه، لتشكل هذه «المفارقة».. بين «قلة» الناخبين و»كثرة» المرشحين أبرز سمات أولى دورات المجالس البلدية الانتخابية..!!
وقد تناول كثير من الكتاب والمفكرين والإعلاميين وبعض الأكاديميين.. ما حدث بعد أن انفض مولد الانتخابات وقامت أول مجالس بلدية تغطي الوطن بأسره، في محاولة لفهمه وشرح أسبابه.. فكان إجماع الأكثرية منهم على أن «قلة الصلاحيات» أو ضمورها كان في مقدمة أسباب انصراف الناخبين عن الإدلاء بأصواتهم واختيار مرشحيهم.. بل وعدول من سجلوا أسماءهم في المراكز الانتخابية عن الذهاب إلى مراكز الاقتراع والإدلاء بأصواتهم، وهو ما أدى في النهاية إلى قلتهم.. نسبة للتعداد السكاني بصفة عامة، وقلتهم بصفة خاصة.. في المدن الرئيسية الأكثر وعياً والمعروفة بكثافتها السكانية الكبرى كـ «الرياض» وجدة والدمام، أما عن أسباب كثرة من رشحوا أنفسهم.. ليصبحوا أعضاء في تلك المجالس، فلم تخرج -آراء من كتبوا- عن أحد أمرين.. إما أنهم رشحوا أنفسهم طموحاً في خدمة (مدنهم) وذويهم، وإما أنهم فعلوا ذلك وبتلك الكثرة.. ربما نتيجة سأمهم من تهميش يعانونه، رغم كفاءاتهم التي لم يشعر بها الوطن.. أو بحثاً عن «فرصة» تفتح لهم الطريق إلى الصفوف الأولى.. بعد أن ازدحمت بمن يستحق ومن لا يستحق!
***
وفي كل الأحوال، كان على وزارة البلديات والشؤون القروية.. أن تولي (موضوع انصراف الناخبين) عنايتها واهتمامها، وبحثها المتعمق.. لمعرفة أسبابه إن كانت هي جادة في إيجاد مجالس بلدية حقيقية (!!) وواعية لـ «معنى» وأهمية المشاركة الشعبية في صناعة (القرار).. حتى وإن كان في أدنى مستوياته (واقع المدن ومستقبلها)، ولو أنها فعلت ذلك.. لاكتشفت أن أول وأهم أسباب انصراف الناخبين، وكما قال معظم الكتاب وأصحاب الرأي.. هو ضعف صلاحيات هذه المجالس وضمورها التي فاجأت «الناخبين»، وجعلتهم يشعرون بعد أن ذهبت الفرحة بقرار إجراء الانتخابات البلدية.. كما لو أنهم صاموا صاموا ثم أفطروا «على بصلة»!! فقد كانت معظم الصلاحيات إن لم تكن جميعها إذا استثنينا صلاحيتي (إقرار الحساب الختامي للبلدية)، و(مراقبة أداء البلديات والعمل على رفع كفاءتها وحسن أدائها للخدمات).. تدور في ثلاث أو أربع دوائر هامشية هي (الاقتراح) و(إبداء الرأي) و(الدراسة) و(المراجعة)، وأنه ليس لها أن (تقرر) أو (تلغي) حتى في «المشاريع المتعلقة بنزع الملكية للمنفعة العامة».. كإقامة الحدائق والملاعب للأطفال أو فتح الشوارع في المناطق المتكدسة.. بل إن عليها أن ترفع لـ «الأمانة».. أو «البلدية»، وأن على هذه أن ترفع بدورها لـ «الجهة المختصة بالوزارة»..!!
وكان المستشارون والقانونيون الذين صاغوا تلك «الصلاحيات» ومنذ البداية.. قد حرصوا حتى على تجنب القول في مقدمتها بأن «المجالس البلدية» تمثل «القناة التشريعية» الأولى في حياة المدن التي تتواجد بها، فما تقره يصبح شرعياً نافذاً.. وما لم تقره يفقد شرعيته النظامية، أو أي صيغة أخرى تحق هذه الحقيقة.. التي تعتبر إحدى أبجديات أعمال المجالس البلدية..!
***
بعد أن مضت سنوات الدورة الأولى في حياة المجالس البلدية.. وخلالها، كان أعضاؤها (المنتخبين) و(المعينين) على السواء.. يكتشفون بأن هناك أكثر من خلل عند التطبيق، يزيد من (تحجيم) صلاحيات المجالس المحجمة أصلاً حسب قانونها الأساسي.. لعل أبرزها اعتبار أمين المدينة أو رئيس بلديتها عضواً من أعضاء المجلس، وإبقاء هذه المجالس ضمن مقار الأمانات أو البلديات وكأنها إدارة من إدارات الأمانات أو البلديات.. وهو ما يجعلها تحت قبتها أو تحت «إبطها»..!!، وأن «أمناء» هذه المجالس.. هم موظفون تابعون للأمانات والبلديات تم تفريغهم من قبلها لهذه (المهمة)، وليسوا من أعضاء المجالس منتخبين أو معينين.. وهو ما يعني أن ولاءهم الوظيفي سيكون بالضرورة لـ «الأمانة» أو «البلدية» وليس لـ «المجلس»..!! ليفاجأ الجميع بإعلان مجلس الوزراء عن موافقته على طلب التمديد للمجالس البلدية لمدة عامين بناء على ما تقدمت به وزارة البلديات والشؤون القروية.. حتى تتمكن من «رفع مشروع نظام المجالس البلدية وفقاً للإجراءات النظامية المتبعة» كما قيل ساعتذاك.. فاستبشر المواطنون - وليسوا أعضاء المجالس البلدية وحدهم - خيراً.. وأملوا كثيراً في «مشروع نظام المجالس البلدية» هذا.. الذي قد يكون جديداً في معظم بنوده.. أو قد يكون معدلاً في كثير منها، وبما يخدم «الأهداف» التي أنشئت المجالس البلدية من أجلها، و»الصلاحيات» التي يتطلع لاستحداثها المواطنون جميعاً..!!
لكن مضى العامان مع نهاية الشهر الماضي.. دون أن يظهر نظام جديد أو معدل لـ «المجالس البلدية» فيما أعلم، وإن ظهرت في النهاية بعض الضوابط الإيجابية الجديدة على عملية الاقتراع نفسها.. كأن يصوِّت الناخب لمرشح واحد في دائرته، وأن يُمنع استخدام الشعارات القبلية في الحملات الانتخابية للمرشحين.. إلى جانب الحديث مطولاً عن محاولات «الوزارة» في إعطاء «المرأة» حقها في العملية الانتخابية كـ «ناخبة» وليست كـ «مرشحة».. متزامناً مع تصريحات واعدة من بعض الأمانات عن استعدادها بل واستكمالها لكل الأسباب «اللوجستية» لأداء المهمة الانتخابية للمرأة بكل تعقيداتها المحلية الفريدة، دون أن يتحقق ذلك في النهاية.. أمام جبهة الرفض لكل ما يخص المرأة، إلا أن أمر مشاركتها -وكما قيل- لم يُلغ ولكنه تأجل.. ربما إلى الدورة الثالثة.. وربما إلى ما شاء الله، لترمي وزارة البلديات.. وراء ظهرها بكل ما كان مطلوباً -أو مأمولاً- منها خلال عامي التمديد، وهي تعلن عن الموعد الجديد للانتخابات البلدية الثانية.. في شهر شوال- سبتمبر القادم.. من خلال حملة إعلانية ودعائية مكثفة لدعوة الناخبين لتسجيل أسمائهم في دوائرهم.. مستخدمة كل وسائل التحفيز والترغيب، ولفت النظر.. وإلى حد الاستعانة بنجوم الفنانين والرياضيين والإعلاميين للترويج بين جماهير الناخبين.. وكأنها تريد أن تقول بأن سبب انصراف الناخبين -في الدورة الأولى- إنما كان بسبب ضعف الحملة الدعائية المواكبة لها، وهو ما سنتنبه له هذه المرة.. وليس بسبب ضمور صلاحيات المجالس وضعفها كما ادعى الكتاب وأصحاب الرأي! وهي مغالطة صريحة.. ستجني «الوزارة» ثمرتها عندما تفاجأ بأن أعداد المشاركين في الاقتراع (وليس في تسجيل أسمائهم والحصول على بطاقاتهم) لم يتعد أعدادهم في المرة الماضية، بل وقد تفاجأ بأن أعداد المرشحين الذين سيتنافسون على مقاعد هذه المجالس.. قد هبط إلى النصف أو ما دون ذلك.. مقارنة بالدورة الماضية، التي شهدت ما يشبه «الهجمة».. على تلك المقاعد!! لتجد الدورة الثانية نفسها في النهاية.. وسط «قلة» من طرفي المعادلة الانتخابية: الناخبون والمرشحون.. معاً، بسبب ضعف صلاحيات المجالس وبيروقراطيتها إن لم يكن ضمورها مقارنة بصلاحيات المجالس المشابهة لها في عالمنا العربي.. وليس في العالم كله، وهوأمر لا يخدم في النهاية مكانة الدولة وسمعتها وما تعلنه بأن عدد سكاننا قد بلغ سبعة وعشرين مليوناً!!
***
إن إلحاحي - ويتساوى معه في مضمونه إلحاح الآخرين.. من الإخوة والزملاء الأفاضل - في طلب المزيد من الصلاحيات للمجالس البلدية، وتعديل المفرَّغ منها من مضامين تخدم المدن.. يرتكز في أساسه على «تجربتي» الشخصية المتواضعة من خلال عضويتي السابقة لـ «لجنة تسمية الشوارع» في جدة، عندما كانت اللجنة برئيسها وكل أعضائها ومستشاريها من أساتذة الجامعة.. لا تستطيع أن تسمي شارعاً باسم أحد رموز المدينة أو المنطقة ورجالاتها ممن خدموا الوطن وخدموها.. إلا بعد استئذان «الوزارة».. دون الاكتفاء برأي الإمارة أو الأمانة أو هما معاً.. كما كان مطلبنا، ثم على «مشاهدتي» - فيما بعد - لما أخذت تقوم به شركات ما يسمى بالتطوير العمراني في جدة.. في ظل ما يشبه الغياب التام للمجلس البلدي.. أو الحضور الخجول له إن أحسنا الظن، وذلك حتماً بسبب ضعف الصلاحيات ومحدوديتها.. وليس غير ذلك على وجه اليقين.
لقد أُعلن أن الانتخابات لدورة المجلس الجديد.. ستجرى في الأيام الأخيرة من شهر شوال- سبتمبر القادم.. وهو ما يعني أن أمامنا بعض الوقت، الذي يمكن استثماره لصالح إقرار هذه الصلاحيات المطلوبة التي نرجوها ويرجوها الوطن بأسره، والتي ستصب في النهاية لصالح «الوزارة».. بل بإراحتها من «وجع دماغ» التفاصيل الصغيرة أو الكبيرة في حياة المدن.. بحدٍ سواء.
dar.almarsaa@hotmail.com