سأسيح اليوم بذهن القارئ الكريم في متاهة قصيرة من (التنظير).. متناولاً ظاهرة القرار الإداري، وكيف أنه يمكن أن يكون (رادعاً) لكثير من الأوجاع التي تعوق حراك المنشأة الإدارية. أو تعطل سعيها ابتغاء ما تريد! وقد يأتي ما اسميه هنا، (القرار الإبداعي).. مصححاً لمخرجات بعض القرارات النمطية التنفيذية التي تتخذها المنشأة.. (لتصريف) شئونها اليومية، لكن بعض هذه القرارات، لعلة ما، ينحرف عن مسار الغاية المبتغاة، وبدلاً من أن يكون (علاجاً) لأمر ما، إذا هو يفرز مشكلات لم تطرأ على بال!.
***
) وهنا، أود أن أفرّق بين القرار (المبدع) وضده من القرارات الأخرى بالقول إن الأول محاولة عقلانية لاستقراء محطات المستقبل وتحولاته إمّا دفعاً لحدث غير مرغوب، أو جذباً لنفع مطلوب، في حين يقتصر القرار النمطي على (معالجة) أمر آنيّ بقصد احتواء مضاعفاته وقهر سلبياته بما يحقق في الغالب عودة إلى المألوف والمعروف!.
***
إذاً، فالقرار الإداري المبدع يستهدف في الأصل استشفاف المستقبل ومحاولة تغيير الموقف الراهن لظاهرة أو سلوك ما طمعاً في تحقيق نقلة جديدة صوب الأفضل أو الممكن مما يعرّفهُ بعضُ (دهاقنة) البيروقراطية بـ(الأكثر ملاءمة)، في حين أن القرار الآخر يسعى في الغالب إلى المحافظة على وضع قائم (STATUS QUO) وصدّ ما يمكن أن يمسَّ استقراره واستمراره، انطلاقاً من معطيات معينة تجسد مجموعة من المنافع والمكاسب لا يرجحُ بها بديلٌ، أو لا يُرغَبُ أحد عنها حِوَلاً!.
***
وهنا يقتضي الحال الإشارة إلى أن الهدف من مقارنة نمطي القرار الإداري المشار إليهما وتصنيفهما إلى مبدع وضده، لا يعني بأيّ حال خلع الحكمة على أيِّ قرار يحمل رؤية للمستقبل، التماساً لتغيير حال بحال، من ثم يمكن نعتُه بالإبداع، وما عداه نكرة لا وزنَ له، لسبب واحد هو أنه لا توجد في الأصل وصفةٌ ثابتة للقرار المبدع، ولكن يقوم فضل أيّ قرار على قدر ما يجلب من نفع، أو ما يصدُّ من ضُرّ، فإن غلَبَ نفعه على ضره فهو صالح، وإن كانت الأخرى، فالمحصلة منه بيّنة، والحكم له أو عليه رهن الحسِّ الرشيد، ويمكن القول بشيء من العدل إن الحكم لقرار ما أو عليه مرتبط بمردوده، وليس بأسلوب ممارسته، كيلا تطغى شكلية القرار كيفاً ونهجاً، رغم أهميتها، على (بنوتيه): جوهراً ومضموناً.
***
وعلى صعيد آخر، يمكن القول بأن ما يسمى (بالقرار الآني) هو من الأنماط الإدارية المصاحبة لسلوك أيّ منشأة إدارية، منها الصالح ومنها ما هو دون ذلك، والقرار الآني أمر لا مفر منه طالما ظل الإنسان يخفق في استقراء ظواهر المستقبل بعقله المبدع، ومحاولة تدبُّر سبل المواجهة مع تلك الظواهر، قبل أن تحل بساحته، وتتحول من مرحلة (التوقع) إلى مرحلة (الأمر الواقع)، وعندئذ يسخّر الإنسان قدراته لإحباط آثارها، وقهر سلبياتها من خلال ما يسمى بـ(القرار الآني) الذي قد لا ينجو من عشوائية العبث وغياب الصواب!.
***
وبعد، «فإن من بديهيات الأمور أن تعي المنشأة الإدارية مدخلات القرار ومضاعفاته، وما قد يرتبه من آثار تكيّفُ مسار المنشأة سلباً أو إيجاباً وألاّ تعالج أمورها بالحس الفطري، أو الارتجال الآني، لأنها قد تخلق لنفسها مشكلات أسوأ حالاً من المشكلات التي حاولت ردعها أصلاً من خلال (قرارات) يسيّرها (الكمُّ) العاجل أكثر من (الكيف المتأني)، وإذا كان حكماء الطب ينصحُون بأنّ الوقايةَ خير من العلاج، فإن مدلولَ هذه المقولة ينسحب على سلوك المنشأة الإدارية دون ريب، لأنها في ضوء كل التعاريف، كائنٌ حيُّ يضم بشَراً لا جدراناً خَرساء! ونتطلع جميعاً إلى اليوم الذي يقلُّ فيه اعتمادنا على القرارات الآنية لمعالجة مشكلات حلّت، ويْقوَى لدينا التوجُّهُ الإبداعي لقراءة رُؤَى المستقبل، ومن ثم محاولة تكوين مواقفِ ردعٍ لما نكره أن يكون في يوم من الأيام أمراً واقعاً!.